عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 17-10-2006, 04:16 PM
صمت الكلام صمت الكلام غير متصل
كنتـُ هيّ ..!
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2006
الإقامة: QaTaR
المشاركات: 4,043
إفتراضي

في هذا السياق اتجهت المدرسة الكينزية إلى إنجاز تعديل كبير في النظرية الليبرالية، حيث نادت بوجوب تدخل الدولة بدل ترك الفعل الاقتصادي مرتهنا بفردانية "دعه يعمل دعه يمر"، مبلورة بذلك رؤية تقلل من استقلالية وحرية الفعل الاقتصادي. وهذا ما أسماه البعض بإنقاذ الليبرالية من فوضى الحرية، وإخضاع الفعل الاقتصادي لمنطق الدولة لا للمنطق التحرري الإطلاقي للسوق.

لقد كان النقد الكينزي للنظرية الليبرالية أعمق وأوسع مشروع نقدي صدر من داخل المذهب الليبرالي. وقد حظي بانتشار كبير، ففي الوسط الاقتصادي الأكاديمي كان للكينزية أتباع عديدون تبنوا مقولاتها النظرية وجددوا فيها مثل نيقولا كالدور، وغوردن، وبلاندر، وعلى مستوى التطبيق حظيت بالأولوية في السياسات الاقتصادية التي انتهجها الكثير من الدول الرأسمالية.

والواقع أن الكف عن حياد الدولة في الشأن الاقتصادي كان إجراء عمليا اضطرت إلى الالتجاء إليه دول عديدة مباشرة عقب أزمة 1929، ويمكن أن نشير هنا على سبيل المثال إلى "النيو ديل"، أي السياسة الاقتصادية الجديدة التي انتهجها الرئيس الأميركي روزفلت، وفكرة ضبط القوة الشرائية التي قامت بها حكومة ليون بلوم في فرنسا عام 1936.

ويمكن القول بلغة التعميم إن اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية قد أخذت في عمومها بالنظرية الكينزية، فاعتمدت التدخل الفعلي للدولة في ترشيد العملية الاقتصادية. وقد حقق هذا التدخل وقتئذ إنقاذا ومعالجة لكثير من الإشكالات الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الليبرالي.

لكن في بداية السبعينيات ومع حرب أكتوبر سنة 1973 شهد الاقتصاد العالمي أزمة أخرى عقب ارتفاع سعر النفط. حيث برزت أزمة اقتصادية جديدة لم تكن معروفة بناء على ما هو معهود على مستوى الأزمات الدورية، وتتمثل جدة هذه الأزمة في اقتران التضخم بالبطالة. وهو اقتران نادر الحدوث في تاريخ الاقتصاد الرأسمالي، ولم يسبق أن تمت مواجهته بالثقل الذي ظهر به.


وفي هذا الظرف الدقيق والحرج –أي ظرف الأزمة- كان لابد من انطلاق مراجعة نقدية للنظرية، وبالفعل برزت رؤى اقتصادية عملت على بلورة إطار نظري مغاير للإطار النظري الكينزي، حيث زعمت هذه الرؤى أن سبب الأزمة لا يكمن فقط في ارتفاع سعر النفط، بل في ارتفاع نفقات الدولة على الخدمات العامة التي تقدمها للطبقات الفقيرة والمتوسطة.

وكان الحل المقترح هو التقليل من هذه النفقات، والتراجع عن المقاربة الكينزية بالعود إلى المنطق الليبرالي القاضي بوجوب إطلاق الفعل الاقتصادي من كل قيد خارجي، واختزال سلطات الدولة بالتقليل من مهماتها ونفوذها، وجعل السوق كينونة مستقلة بذاتها.

هذا الحل تم الاصطلاح على تسميته بالنيوليبراليزم (الليبرالية الجديدة). وهنا نذكر بالمدخل المنهجي الذي استهللنا به هذه السطور، فقد قلنا إن المراجعات النقدية لنظم السياسة والاقتصاد تكون في الغالب لاحقة لأزمات ظهرت خلال التطبيق، وتأسيسا على ما سبق نقول على سبيل الاختزال:

إذا كانت النظرية الكينزية تراجعا عن الإطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي، ورفضا لحياد الدولة بقصد معالجة أزمة سنة 1929؛ فإن النيوليبرالية هي محاولة لمعالجة أزمة 1973، على أساس رفض المنظور الكينزي، والمناداة بالعودة إلى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في أشد تمظهراتها المطلقة.
__________________