عرض مشاركة مفردة
  #21  
قديم 23-06-2007, 09:47 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

المصرفي والمُكَلَف :

كيف خضع المصرفيون لرقابة الدولة
بعدما نظموا مالية الدولة الحديثة؟


كان المصرفيون أشخاصا أساسيين في الثورة الصناعية، ففي المقام الأول ضغطوا على الأمراء لتنظيم مالية ممالكهم، وقد مولوا زيادة القوة السياسية للأمراء، من خلال ما كانوا يمنحونهم من قروض. كما فرض المصرفيون في البلدان الأوروبية الرئيسية تنظيم الإصدار النقدي من خلال إنشاء مؤسسات إصدار.

ولم يتوقف نشاط أولئك المصرفيون عند هذا الحد، بل كانوا يمولون مشاريع صناعية وزراعية ومشاريع إقراض ما وراء حدود الدولة، مما جعلهم يحتاجون المزيد من الأموال، فتحولوا الى مبشرين في جذب المدخرين لإيداع أموالهم في المصارف، وكانوا يغامرون في التصرف بتلك الأموال ويتعرضون الى مخاطر تجر الويلات في كثير من الأحيان، لا عليهم فحسب، بل على جمهور المدخرين، وكان تصاعد الأنشطة الراغبة في التمويل داخليا وخارجيا، هي ما تفرض على هؤلاء المصرفيين من تجاوب، أحيانا لا يكون بشكل مدروس بعناية ودقة.

كانت الهزات التي تعرض إليها قطاع المصارف في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، هي ما جعلت الدول الأوروبية تتدخل لتأميم قطاع المصارف وتخضعه الى سيطرة الدولة، كون الدولة هي الضامن بالنهاية للمودعين .. وقد كانت فلسفة الدولة الغربية في ذلك تتلخص في منع الخلط بين الأعمال والقروض الممنوحة لتنمية تلك الأعمال، فالتسليف لقطاع الصناعة يختلف عن التسليف في قطاع العقارات وقطاع التجارة والزراعة والتعاون وغيره، فحتى تمنع الاحتكارات والمضاربات، أوجدت تخصصات في أعمال البنوك، والتي تم ربطها بجهاز مصرفي مركزي تملكه الدولة وفق نظام معقد.

وهكذا تنحى دور المصرفي في تسيير أمور التمويل في الدولة ونشاطاتها الاقتصادية، ليصبح خاضعا لقوانين تلك الدولة ..

تدبير الادخار العالمي من قبل البيروقراطية المصرفية

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعودة الحياة الاقتصادية لأوروبا وانتعاش القطاعات الصناعية والزراعية، عاد المصرفيون ليحتلوا مكانتهم الأولى التي كانوا عليها قبل تدخل دولهم، ولكنهم عادوا مقيدين بضوابط من دولهم ليتحملوا هم تبعيات مخاطر تصرفهم، فبعد الانهيار المالي في بداية الثلاثينات في أوروبا عندما أصبح الدولار يساوي أكثر من مئة ألف مارك، فإن شبح تلك الأيام سيجعل المصرفيين أكثر حرصا وابتعادا عن المغامرات غير المدروسة.

هذا الجو صنع آليات معقدة لضبط مسارات التسليف، مما خلق جوا بيروقراطيا شنيعا، دخل من خلاله المهندسون ليفرضوا سلطانهم على المصرفيين وعلى الدولة أيضا.. فهم من يقدم مخططات المشاريع الهندسية وهم من يقترح حجم تمويلها، وهم من يضع تصورات لما تنتج، وقد تفننوا بتلك الدراسات، فحتى لا يضجر منهم الممولون وتضجر منهم الدولة، كانوا يميلون لعمل دورات قصيرة لرأس المال وأرباح كبيرة، يصدقون في توقعاتهم من خلال التنبؤ بها، ولكنهم لم يكونوا ليعطوا فرصة للممولين أو للدول التي ترتبط بالممولين من أن يأخذوا أنفاسهم، فتتسارع المشاريع والمخططات المكملة لها، وتتسارع معها تدفقات رأس المال لتمويلها، وتصبح الدولة والمصرفيين رهن إشارة المهندسين..

تكاليف أخطاء البيروقراطية المصرفية بالنسبة الى المُكَلَف:

رغم تلك المظاهر من الحرص والتدقيق التي تجلت بالبيروقراطية الحارسة للأموال، فإن أخطاء كثيرة وقعت ليس بالصناعات الهندسية وحسب بل بالقطاع العقاري وبالمضاربات، وساد جو من الحيل والغش للتمويه على تلك البيروقراطية. وقد كانت الخسائر بمئات المليارات من الدولارات .. ولا حاجة للتذكير بما حدث عام 1992 لمجموعة (Olympic&York) الإنجلو ـ كندية، التي فاقت خسائرها 13 مليار دولار أي بمبلغ مديونية المغرب عام 1982، أو بانهيار مجموعة إمبراطورية ماكسويل أو إمبراطورية بنك الاعتماد والتجارة الدولية ..

كل ذلك أدى الى ظهور إقطاعيات مالية عالمية، وجعل تلك الإقطاعيات تتماهى مع الدول في سياساتها المدنية والحربية والاقتصادية ..

التبذير في القروض الممنوحة للدول

اكتشف المصرفي، أن أفضل قروض ـ من حيث ضمان احتمالية تسديدها ـ هي تلك التي تمنح للدول .. لخلو ذلك من المخاطر، ولأن عدم تسديدها من قبل الدول الممنوحة، سيفتح أبواب اقتصادية لا تقل ربحا عما لو سددت تلك القروض، بل وقد تزيد عليها .. حقا، إن هذا النهج ليس جديدا، بل قد اتبعته البنوك مع الدولة العثمانية في نهاية أيامها، كما اتبعته مع العهد (الخديوي) في مصر،أو تونس في عهد البايات، ورأينا كم كانت نتائجه مفيدة ومربحة بالنسبة للمقرضين ..

ولم تكن البنوك والمصرفيين معنيين في الكيفية التي تصرف بها القروض الممنوحة للملوك والأمراء، بل كانوا معنيين بالضمانات التي يستفيدون منها بصفتهم المالية أو بصفتهم حلفاء لدولهم .. فهم بالعكس، يفرحون أن تبذر الأموال في اللهو والعربدة والسياحة، ولا تبذر في أوجه التنمية والبحث العلمي، الذي لو تم سيجعل من أسواق الدول الممنوحة مجالا مشكوك في رحابته أمام سلع شركاتهم التي كونوا منها الأموال التي أقرضوها .. وكانوا يستوفون عندما تعجز الدول عن التسديد، امتيازات جديدة في المناجم ونهب المواد الخام من الدول المقترضة، بصفتها كدولة، أو كحاكم يتصرف بشكل مطلق بشؤون تلك الدولة ..

يتبع

هامش
ـــ
الكتاب: قراءة من صفحات 107ـ 116
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس