الموضوع: فقط يموتون
عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 26-12-2002, 04:19 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي فقط يموتون

http://www.alarweqa.net/eb/stories.p.../10/03/9637635

فقط، يموتون
محمد بنيس
(1 )
كيف يمكنني ألا أصدق؟ موت يتزاحم على أيامنا. من فلسطين يهجم. وفي اليوم، واليوم الذي يليه.
هذا الموت، أي شعب وحيد في عالم يجرؤ على النسيان، بالمعنى السلبي للنسيان. حيث الذي يتحرك في المكان الفلسطيني، هو المنسي. القابل لنسيان، لا يثير الرأي العام العالمي، بما يؤججه الموت، في المكان الفلسطيني المحتل. وتلك هي صورة القتيل، المغطى بالعلم الفلسطيني. وجه جامد القسمات، على محفة، باتجاه القبر. المقبرة، الدفن وسط هتاف الوحيدين. تحية لك أيها السيد القتيل.
الصورة نفسها، في النشرات الإخبارية العربية، وبعض النشرات الأجنبية. وأنا أحاول الاقتراب من الوجه، في يقظته المستمرة. واضعا على الطرق الألف صورتك التي تلازمني. هي الصورة التي أسمعها تضج في وجهي كلما دنوت. أنت القريب الذي لا يقترب أبدا. أو أنت البعيد الذي أتوهم أنه أخي في الموت. ما كنت أظن أن الصورة ذاتها، على الطرق الألف تناديني بهذه الضجة، باعثة في النفس سكرات الموت، حارة، ومتهدجة. كلما شاهدت، وسارعت الى معاودة المشاهدة، كما لو كنت أبحث عما لا أريد أن أصدق، مناجيا نفسي. مكذبا. مصدقا. فقط يموتون.
وهذا ما يقدم فرصة أبعد للتأمل. إنني استعيد مع هذا الموت حضورا للمأساة في وطن معذب، أمام صمت العالم. وهو لا يرفع الصوت من أجل شعب غريب، ووحيد على الأرض. في عصرنا هذا. ربما كنت أنظر الى القرن العشرين. من بدايته حتى منتهاه. أتابع الصورة على شاشة صغيرة تنقل لك ولي، شابا ثم شابان ثم الشاب الذي يتواصل مع إخوته في الموت. أسأل نفسي: هل حقا يموتون بهذه الوداعة على أرضهم، وحيدين؟ ولا أنتظر جوابا من غير هؤلاء الذين يموتون. أرغب في أن أكون محاذيا لهم، لا تفصلني عنهم خطابات. منفردين بالصورة. وفي صدري شيء ما ينجذب ويحترق. لعله صرخة أتخاذل عن إطلاقها في محفل، أو وسط جموع. وجه لهذا الوحيد الذي يتقدمنا، وهو يتمرد على حياة الاحتلال.
في الصمت الكبير تعظم الصورة. لن تنتبه إلى ما خلفك. دائما ثمة ما يهيج الغبار، رافعا صوتا، تستقبله حائرا. هل لك ما تفسر به هذا الموت من أجل وطن؟ حائرا لأنك تدرك أن هؤلاء الذين يموتون يدركون أنهم لا يملكون شيئا سوى الموت، على الطريق الألف لشعب فلسطيني. هكذا أرادوا له أن ينسحب من أرضه ومن تاريخه. ولكنه شعب يدافع عن حريته في الموت. ذلك هو اللغز المستعصي على كل من يملك منطق الإرغام، ولن يفلح في إرغام الشعب الفلسطيني.
(2 )
أترك جانبا هذا الهتاف الحماسي، لا لأنني أستهجنه. لا. أبدا. فتلك صيغة من صيغ التعبير عن الفجيعة. غير أني استبعده لأنصت الى ما لا أفهمه على نحو مباشر، في التو. في الصورة والخبر الملازم لها. أتخلص من هذا الزائد على الموت. في لقطة، على شاشة صغيرة شاهدتها قبل يومين، وكانت هي نفسها التي شاهدتها منذ بداية الانتفاضة، بل أكاد أشاهد الحركات نفسها للمحفة وأنا أتفحص العلم الفلسطيني على جسد القتيل. أيها الشهيد الذي لا أعرف كيف أضع له رقما من بين شهداء فلسطين في تاريخها الحديث. عائدا الى الوراء، الأحداث الأولى، المواجهات، التي لم تتأجل في يوم ما في عهد الحماية البريطانية.
أبحث في الوجه الصامت الذي يتململ، عن حياة. وعن سر هذا الموت. كيف الشاب بعد الشاب، كانوا جميعا يلتقون بموتهم؟ أعلم أن هذا الشعب أدرك على الدوام أنه لا يملك إلا موته، وأنه سيدافع عنها، بطريقته، دون أن يعتبر هذا الموت منجاة ثابتة من عذاب إسرائيلي، وضع لكل أصناف القتل خرائطها، وهو ينفذ ما توعد به. القتل، والقتل. هذا القتل للفلسطينيين، هو قرار يعني أن الإسرائيليين ليسوا على استعداد للاعتراف بشعب معذب على أرضه. كيف للإسرائيليين أن يزعموا غير الذي نشاهده، موتا لشبيبة فلسطينية، برصاص إسرائيلي مدرب على عدم إفلات فرصة القتل، في الأوقات كلها.
الرد مع إقتباس