عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 03-10-2006, 12:42 AM
النسري النسري غير متصل
كاتب مغوار
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2004
الإقامة: الأردن
المشاركات: 2,917
إرسال رسالة عبر ICQ إلى النسري
Smile


ثالثاً: الاجتهاد في قيام الليل

كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قواماً لله كثير التهجد والذكر والبكاء والدعاء لله تعالى، قال له ربه سبحانه: {قم فأنذر} [المدثر: 2]، {قم الليل إلا قليلا} [المزمل: 2]، فقام صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة، ولم يقعد بعدها، ولم يسترح، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".

وروى ابن مردويه وأورد ذلك كثير من المفسرين بأسانيدهم أن بلالاً رضي الله عنه مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم سحَراً، يؤذنه بصلاة الفجر، فسمعه يقرأ: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191]، وبعد أن فرغ من صلاته قال لبلال رضي الله عنه وهو يبكي: "لقد نزل علي الليلة قوله تعالى... ثم تلا الآيات السابقة.. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ويل لمن قرأها ولم يتدبرها".

وهكذا... كان صلى الله عليه وسلم إذا جن عليه الليل في رمضان وغيره قام متبتلاً لله سبحانه وتعالى... وما أعظم قيام الليل، خاصة في رمضان، وما أعظم السجدات، وخصوصاً في رمضان... وما أحسن التبتل والدعاء والبكاء والإنابة إلى الله لا سيما في رمضان:

قلت لليل هل بجوفك سر ***** عامر بالحديث والأسرار؟
قال لم ألق في حياتي حديثاً ***** كسجود الأبرار في الأسحار

وقيام الليل، لما تركته الأمة الإسلامية إلا من رحم الله ذبل في صدورها الإيمان وضعف اليقين، وعاش جيل فيه تهاون وكسل وقعود ودعة وحب للدنيا وإخلاد إلى الأرض، إلا من رحمه الله، {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13].

والذي ينبغي للمسلم الذي يريد أن يصلح نفسه أن يكثر من تلاوة القرآن وصلاة الليل، فإن هذا الشهر شهر تجديد للروح، وتزكية للنفس، وزيادة للإيمان، وفرصة ثمينة لا تتعوض أبد الدهر، وشهر توبة وعتق من النار.

عدد ركعات قيامه صلى الله عليه وسلم:
أما عن عدد ركعات قيامه صلى الله عليه وسلم فقد كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، كما روت عائشة رضي الله عنها: "كان صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة... يصلي أربعاً فلا تسأل عن طولهن وحسنهن...."الحديث.

كان يصلي إحدى عشرة ركعة، ولكن الركعة الواحدة تعدل، بل ربما تزيد على آلاف الركعات من ركعات كثير من الناس اليوم، يقف في الركعة الواحدة أمداً طويلاً يناجي ربه، ويتدبر كلامه، ويحيي روحه ويتدبر القرآن، يبكي ويناجي، ويسأل ويسجد طويلاً ويركع طويلاً، فتصبح الركعة حسنة جداً متقنة، ما أحسن منها، والله يقول: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [الملك]، ولم يقل: أكثر عملاً.

التجويد أفضل من التكثير:
وعلى هذا فالعمل في صلاة القيام، أو في الإسلام على وجه العموم، يعتبر بكيفه لا بكمه، والتجويد أفضل من التكثير بلا جودة، حتى في التلاوة، فلا يُهذرم القرآن أي يقرؤه بسرعة بغير تدبر فيضيع معانيه وحروفه على حساب الختم، إذ المقصود التدبر والمعايشة للمعاني، ورب آية واحدة سمعها مسلم بتدبر وإعمال فكر أفضل من سماعه عشرات بل مئات الآيات وقلبه غافل وفكره شارد.

وإن من الناس من يختم القرآن في رمضان مرة، ولكن يا لها من ختمة، ما أحسنها وما أجودها، يعالج فيها نفسه بكلام الله، ويداوي جراحات قلبه بكلام مولاه، فيكون للقرآن أثر في قلبه وسلوكه.

وأناس آخرون يقرؤون فيختمون كثيراً لكن مق صلى الله عليه وسلم ودهم الأجر، فهم مأجورون، إن شاء الله، لكن غذاء الروح ومدد اليقين وماء الإيمان، لا يحصل إلا بالتدبر ومعايشة القرآن.


رابعاً: الإكثار من الذكر والتبتل والاستغفار والمناجاة

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أيضاً الإكثار من الذكر والتبتل والاستغفار والمناجاة، خاصة في معتكفه في العشر الأواخر، حيث يشد المئزر ويجد ويجتهد ويوقظ أهله، ذلكم أن الذكر حياة القلوب وغذاء الأرواح، وربما هذا كان سبباً في أنه كان صلى الله عليه وسلم يواصل في صومه، وينهى أصحابه عن الوصال، قال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت فيطعمني ربي ويسقيني"... (أورده ابن القيم في زاد المعاد).

وقد اختلف أهل العلم في هذا الطعام والشراب على قسمين:

قوم يقولون إنه طعام حسي وماء معروف يسقى به صلى الله عليه وسلم ويأكل... وليس هذا بصحيح، لأنه لو كان كذلك لما كان صلى الله عليه وسلم صائماً... ولما قال: إني لست كهيئتكم، ولما كانت له ميزة أن يواصل.

والقول الثاني وهو الصحيح أنه يُطعم ويُسقى صلى الله عليه وسلم بالمعارف التي تُفاض على قلبه من الواحد الأحد، من لذة المناجاة وعذوبة الذكر، والدعاء والتبتل، بما يغدق الله على روحه، وبما يفيض على قلبه من دعاء وذكر...

ولذلك ترى بعض الناس لولهه وكثرة سروره، قد يستعيض عن الطعام، حتى قال القائل يتحدث عن لذة قلبه بقدوم

قادم أو مناجاة حبيب:

لها أحاديث من ذكراك تشغلها ***** عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به ***** ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا تشكت كلال السير أسعفها ***** شوق القدوم فتحيا عند ميعاد

فكأنه صلى الله عليه وسلم بحلاوة المناجاة والذكر يستعيض عن كثرة الطعام والشراب ..
هذه نماذج من هديه صلى الله عليه وسلم ولو أردنا المزيد لما عجزنا، ولكنها فقط قبسات من هديه وهدي أصحابه صلى الله عليه وسلم الذين عاشوا دقائق رمضان تعبداً وجهاداً في سبيل الله.


فيا أخي المسلم، هذا شهرك، هذا شهر التوبة والإقبال فاغتنمه، وهذه فرصتك، فلا تضيعها، واعلم أن الحياة الحقيقية أن يسافر قلبك إلى الله وأن تعيش مع الله: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} [الأنعام: 122]، وارفع شعاراً رفعه سيدنا موسى عليه السلام أحد أولي العزم من الرسل: {وعجلت إليك رب لترضى} [طه: 84].

وتذكر أن الأعمال بخواتيمها.. وأن السعيد من سعد بلقاء ربه:

ولدتك أمك يابن آدم باكياً ***** والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا *****في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
__________________