الموضوع: القيمة والمعنى
عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 18-06-2002, 04:55 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

بمجرد أن نترك المعنى نترك المجال للعبث، وحتى التداعي الحر للأفكار الذي يعول عليه فرويد للوصول إلى معنى الأحلام والأعراض العصابية ليس له قيمة فنية وإن زعم السرياليون غير ذلك ،لأنه ببساطة لا فن إلا فيما هو ذو قيمة عامة مشتركة بين البشر من تجارب واقعية وروحية كبرى ذات دلالة، ففي النهاية ليس كل حادثة تستحق أن تصبح قصة ولا كل تداع حر للأفكار يصلح أن يعطينا شيئاً عميقاً عن الإنسان!
ومن الادعاءات التي أشرت إليها ما ورد على لسان نصير ذكي لقصيدة النثر و"النص الأجد" هو الأستاذ جعفر في مقال "ذم المعنى" المذكور:
"القصيدة الحديثة تعتمد على تجاور وتشابك الفضاءات الإبداعية".
" في هذه القصيدة تقنيات لربط العلاقات المتباعدة بين عناصر الوجود والثقافة هي التي تخلق تلك الطاقة الإيحائية للصورة في القصيدة"
"القصيدة الحديثة تشارك المتلقي في الإبداع وتجعله طرفاً فاعلاً"
والأستاذ جعفر يشبّه من يحاول استخلاص معنى ما من الصورة الفنية بشخص "يحاول بأدوات العصر الحجري أن يقوم بعملية دقيقة في قرنية العين. العملية ستنجح والعين ستفقأ!"
كنت ذكرت قبل قليل كيف تسلل المضمون والمعنى إلى تنظيرات أدونيس، وها هو ذا يتسلل إلى "ذامّ المعنى" أخينا الأستاذ جعفر.
إنه يرى أن الشعر يغني تجربتنا الحياتية بحقائق لم نستطع اكتشافها لولا الشعر: "إنه ذلك الفعل الإنساني الذي يرتقي بالإنسان إلى آفاق رحبة من الإنسانية عبر لمس المضامين الجديدة.وعلى القارئ العزيز أن يدقق في المضمون وليس المعنى مع أن المضمون سيحيل إلى المعنى لكنه أوسع مدى بحيث يتحمل وضع أشكال التخييل فيه"
عاد الأستاذ جعفر إذن إلى المعنى الذي أراد في مقاله ذمه عودة لها مغزى لعله لم يفكر فيه بقدر كاف.أنا أذكره باحتقار منظري الفن الحديث للمعنى ولمن يطلبه، وقد ظهر هذا الاحتقار عنده أيضا في بداية المقال وفي تشبيهه من يطلب المعنى من الصورة بمن يحاول إجراء عملية على القرنية بأدوات العصر الحجري. الآن عاد إلى مشروعية البحث عن معنى ولكن مع هذا الشرط وهو "السماح بالتخييل" فلو شئت أن أستعمل تشبيهه السابق لقلت إن القصيدة الحديثة تسمح لصاحب أدوات العصر الحجري بإجراء العملية مع احتمالات عديدة منها أنه قد يفقأ العين ولكن منها أن لا يفقأ العين ويخرج المريض صحيح العين معافاها، بل قد يخرج بعيون إضافية لم توجد من قبل!
والحقيقة التي أراها أن المعنى لا يمكن الهروب منه إذ المخ الإنساني مركب على مبدأ البحث عن معنى في كل ما يرد إلى الحواس من معطيات خارجية ، وما من دال بلا مدلول ،ويبقى أن ننظر في صحة ادعاءات هذا "النص الأجد": ما الذي يضمن لنا أن هذه "الفضاءات المتجاورة" وهذه "العلاقات المتباعدة بين عناصر الوجود والثقافة" ليست اعتباطية، وأن الشاعر كان بإمكانه أن يضع أية "علاقات متباعدة" و "فضاءات متجاورة" لمجرد العبث، ثم ينشغل المتلقي "بتصوره" و "إحاطته" و "إدراكه" و "رؤيته" و "استبطانه" و "تفكيكه وتركيبه" و "سبره" و "تأمله في الجمال واستمتاعه به" و "تخيله الفاعل والإيجابي" ليقوم بعمل جاد في "التلقي الفاعل" لعمل هازل عابث؟(2)
وقد قام بذلك ذات مرة بالفعل مجموعة من أدباء الشام منهم علي كنعان وممدوح عدوان وأرسلوا قصيدة ملفقة إلى مجلة شعر فنشرتها مع تقريظ مطنطن ثم نشروا هم قصة القصيدة!
وتجربة مماثلة في تلفيق "قصيدة" عبر لصق كلمات كيفما اتفق من أوراق الجرائد قام بها حكم البابا في جريدة تشرين الدمشقية واشتهرت معطية نتيجة مماثلة فلم يجرؤ على التشكيك في القصيدة من النقاد غير واحد هو شوقي بغدادي لم يشكك بل قال صادقاً إنه لا يفهم في هذا النوع من الشعر! أما الآخرون فانهالوا "بقراءات" مستندة إلى الوهم الخالص من النوع الذي يبدو أن الأستاذ جعفر يفتح الباب له.
والعبد الفقير قام قبل البابا بتجربة أعطت النتيجة نفسها. وإنني لأدعو الأستاذ جعفر أن يجرب فيضع "علاقات متباعدة" و "فضاءات متجاورة" بصورة عشوائية اعتباطية ثم لير كيف "يبدع المتلقون في القراءة والتصور واستخلاص المعنى مع السماح بالتخييل".
هذا "النص الأجد" هو عند غير المخلصين دجل واستسهال وعند المخلصين من أمثال الأستاذ جعفر توهم في اعتقادي ناتج عن هيبة المرجع العالمي الذي اخترعه وروج له وهو الثقافة الغربية.
وبالمناسبة التقيت مراراً بمثقفين غربيين يرون رأيي أن هذه المدارس الفنية تعبير عن بلوغ الاستلاب عند الإنسان الغربي ذروته وهم يبحثون عن بدائل ولعل هذا التيار سيظهر قريباً بصورة أوضح من ضمن التيارات التي يموج بها "عصر ما بعد الحداثة" في الغرب.
أعرف أصدقاء جربوا التجربة التالية: أخذوا من "النقد الحديث" ثلاثة "تعليقات نقدية" على ثلاث لوحات حديثة لنقل بالشكل التالي:التعليق ت1 للوحة ل1،التعليق ت2 للوحة ل2،التعليق ت3 للوحة ل3، وخلطوها وطلبوا من "ناقد" أن يحدد "التعليق المناسب" لكل لوحة فأخطأ! ولو أن الأستاذ جعفر أخذ ثلاثة نصوص من نوع "النص الأجد" ن1،ن2،ن3 وطلب لكل نص تعليقاً من ناقد فتجمع عنده ثلاثة تعليقات ت1، ت2، ت3 ،ثم عرض النصوص والتعليقات مخلوطة على ناقد ثان فسيرى أنه لن يفلح في معرفة الربط بين النص والتعليق(شرط أن لا تحتوي التعليقات طبعاً على استشهادات أو كلمات من النصوص بل تكون من النوع العام).
الفن الحديث والنص الحديث هما ناتج عما دعاه فوكو "موت الإنسان" في الحضارة الغربية المعاصرة فهي حضارة وصلت إلى الحد الأقصى من الاغتراب وتشييء الروح بحيث أن الأشياء استقلت بذاتها وسيطرت على صانعها البشري حتى فقد الإنسان الإحساس بالمعنى والاكتئاب العميق هو الأب الروحي لهذا الفن على حين تميز الفن قبل ذلك (ولا زالت ميزته هذه موجودة في فننا التقليدي) بأنه فن نابض بالانفعالات والعواطف والحيوية.وأمام الثقافات غير الغربية واجب حتى تجاه الإنسان الغربي الضائع هو أن تقدم نموذجاً مغايراً لفن لم يتشياً بعد ولكيلا لا يرى القارئ أن هذا مطلب مستحيل سأذكره بمثال واضح هو مثال الرواية.
لقد انعكس الاغتراب العميق للإنسان الغربي في الروايات الجديدة من "تيار الوعي" وخصوصاً روايات الفرنسيين ألان روب غرييه وناتالي ساروت. وفجأة وفي هذا الوضع الخانق وفدت إلى أوروبا من شعوب سمراء لها تاريخ ثقافي مختلف هي شعوب أمريكا اللاتينية روايات تطرح رؤية مختلفة وشكلاً جديداً :الواقعية السحرية التي ماركيز أشهر ممثليها واستطاعت هذه الرواية أن تفرض وجودها في أوروبا بدون أي تملق للقيم الغربية تعودت الروايات المكتوبة بقصد الترجمة التي كتبها عرب وغير عرب من بلدان عالم ثالثية أخرى أن تقوم به.
فلنصبر قليلاً ولنحاول استنباط أشكالنا الخاصة وصدقوني: بهذه الأشكال وحدها يمكن لنا أن نعبر عن أنفسنا وليس ذلك وحسب: بها وحدها يمكن لأدبنا أن يصبح عالمياً!
وهذا يوصلني إلى النقطة الأخيرة التي أريد إيرادها في هذه المداخلة: خلافاً لما قد يكون نتج من انطباع عند قارئ السطور السابقة أنا لا أدعو بالضرورة إلى الجمود على أشكال أدبية معينة. ومحاججتي انطلقت من مبدأين:
أولاً: إن الأشكال الغربية ليست قدراً مقدوراً ولا هي تتمتع بأي تميز خاص أو مشروعية تاريخية.التقدم موجود في العلم الطبيعي وفي التقنية ولكنه لا يسري بنفس الطريقة على عالم الأدب فها هنا لا نعد الأدب الغربي متقدماً على العربي كما أن ساروت غير "متقدمة" على ماركيز.
ثانياً: إن أشكالنا نحن نحتفظ بما نشاء منها ونغير فيما نشاء على أساس حاجاتنا وتجاربنا الخاصة ولا تتمتع الأشكال الغربية بأي إجبارية وهي ليست ا"لأفضل" أو "الأكثر تقدماً".
ومن الأمثلة التي أضربها مثال الرواية والأشكال الحكائية التراثية: إن كلاً من الروائيين جمال الغيطاني وأميل حبيبي استطاع أن يبدع رواية حديثة عربية استمدت من التراث العربي ولكنها لم تنسخه ولم تنسخ النماذج الغربية.
وإنني أرى أن الشعر العربي أيضاً عليه أن يقدم نموذجاً مماثلاً للتجديد الأصيل.

خاتمة: هل من طريق لنظرية معنوية في الفنية؟

لعل التأكيدات المعادية لدور المعنى في تحديد فنية النص الأدبي تجد مجالاً معقولاً في الشعر أكثر مما تجده في نوع أدبي آخر هو الرواية هو بالمعنى ألصق!
وبالفعل: أليس الفرق في الفنية بين أديب عظيم كدستويفسكي و"أديبة" تافهة من نوع أجاثا كريستي عائداً إلى ما يزيد على مجرد أن يكون قضية شكلية؟
وكيف نفسر الفارق في العظمة الشعرية مثلاً بين المتنبي وابن المعتز، مع أن الأخير بالمناسبة كان يحكم نفسه بهاجس الشكل أما الأول فكان يهتم بالمضمون الفكري.
أنا لا أقول طبعاً إن المضمون الفكري لوحده هو الذي يحدد القيمة الفنية ولكنني أرى أن التيارات الجديدة في النقد بالغت كثيراً في تقزيم أهمية المضمون في تحديد الفنية.
ومن هنا تقوم في رأيي ضرورة "ردة" معاصرة إلى المضمون ودوره في الفنية ولكن بطريقة نظرية صائبة تحدد الآليات التي تربط الأفكار العظيمة بالفن العظيم وتبرهن على المسلمة التالية التي أنا مقتنع بصحتها: كل فن عظيم يحمل مضموناً عظيماً والعكس ليس بالضرورة صحيحاً!


هامشان

(1)مقال الكاتب البحريني الأستاذ جعفر حسن "في ذم المعنى الأدبي" موجود في "منتدى الشعر المعاصر" العنوان:
http://www.werith.net/vb/showthread....&threadid=3615
(2) جميع التعابير بين الأهلة وردت في مقال الأستاذ جعفر في سياق وصفه لعمل متلقي النص الأجد.
الرد مع إقتباس