عرض مشاركة مفردة
  #15  
قديم 06-07-2005, 09:35 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي


هذا هو ما تُوصل إليه هذه المفاهيم، وهذا هو خطرها، ولكنها بكل أسف وكل حسرة سادت المسلمين كما سادتهم محاولة تأويل الإسلام ليوافق النظام الرأسمالي والتشريع الغربي، فكان هذا هو الهزيمة المنكَرة التي هُزمها المسلمون، وهو النصر المؤزر الذي أحرزه الغربيون على العالم الإسلامي كله. ومن هنا تحوّل التاريخ إلى وجهة أخرى غير الوجهة التي كان يتجهها، ومن هنا بدأت السيادة في العالم تتحول من المسلمين إلى الكفار الغربيين أي من الإسلام إلى النظام الرأسمالي أي إلى الكفر. وبهذه الهزائم من المسلمين أمام تحدي النظام الرأسمالي تسرب الخلل إلى الثقة بأحكام الإسلام وأفكاره، وتسلل التساؤل عن صلاحية الشريعة الإسلامية لمعالجة مشاكل العصر الحديث ومماشاة الزمن. فكان هذا أول الوهن في كيان الأمّة الإسلامية. إذ الأمّة هي مجموعة من الناس تجمعها عقيدة عقلية ينبثق عنها نظامها. وهذا يعني أن الأمّة مجموعة من الناس مع مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات تربطها عقيدة واحدة، فإذا تسرب الخلل إلى هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات فقد تسرب إلى كيان الأمّة يعمل فيها تهديماً وتخريباً. وكان هذا أيضاً أول الوهن في كيان الدولة الإسلامية. إذ الدولة مجموعة من الناس ومجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات يربطها السلطان فيتشكل بذلك كيان الدولة، فإذا تسلل الخلل إلى هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات فقد تسلل إلى كيان الدولة يضرب فيها بمعول الهدم والإزالة.

وهذا ما حدث بالفعل، وما ظهرت نتائجه خلال قرن واحد. فإن الكفار بعد أن يئسوا من غزو الدولة الإسلامية وتحطيمها، وصار عندهم رأي عام بأن الجيش الإسلامي لا يُغلب عَمَدوا إلى غزو الأمّة الإسلامية بالأفكار الغربية ليزعزعوا كيانها حتى يتمكنوا من تحطيم الدولة الإسلامية، لأنه إذا زُعزع كيان الأمّة التي تنبثق عنها دولتها فقد تزعزع كيان هذه الدولة وسَهُل تحطيمه بعد ذلك. ومن أجل وصول الكفار إلى هذه الغاية عمدوا إلى الغزو الفكري بالإرساليات التبشيرية والمدارس والمستشفيات والكتب والنشرات والجمعيات السرية. وقد اتخذوا في أول الأمر مالطة مركزاً لهم ثم انتقلوا إلى بيروت سنة 1625 واتخذوها مركزاً لهم، وصاروا كذلك يشتغلون في استانبول واتخذوها مركزاً آخر، ونشطت السفارات الانجليزية والفرنسية والمؤسسات الأمريكية ككلية البروتستنت التي عُرفت فيما بعد بالجامعة الأمريكية، وكان نشاط السفارات الانجليزية والفرنسية في استنبول وبيروت ودمشق والقاهرة بالغاً أشدّه. وقد غزوا جميع الأوساط، إلاّ أنهم كانوا يركزون على الأوساط السياسية والأوساط الفكرية حتى استمالوا كثيراً من شباب الجامعات والمدارس وكثيراً من المثقفين الذين يشغلون مناصب في الدولة وفي الجيش، فكان لهذا أثره في بعث حب الثقافة الغربية والتشريع الغربي في نفوس المسلمين وتشكيكهم في الإسلام وصلاحيته للعصر الحديث. فبدأ حب الاستفادة مما عند الغرب مع اصطناع المحافظة على الإسلام، وبدأ السوس ينخر في جسم الأمّة كما بدأ ينخر في جسم الدولة، وانتقلت الدولة الإسلامية من دور المد إلى دور الجزر، كما انتقلت الأمّة الإسلامية من دور حمل الدعوة الاسلامية إلى دور أن يحمل الكفار إليها دعوتهم إلى الكفر.

ولا شك أن هذا كان بدء الوهن في الأمّة وبدء الوهن في الدولة. وقد لعبت الأوساط الفكرية والأوساط السياسية بتوجيه من الدول الكافرة دوراً مؤثراً في ذلك. ولمّا استفحل أمره وأيقنت الدول الكافرة ولا سيما انجلترا وفرنسا أن الانحلال بدأ في الأمّة الإسلامية وأن الوهن قد تغلغل في الدولة الإسلامية، بدأت تُغِير بالفعل على أطراف الدولة تقتطع منها أجزاء. وقد عم الطمع جميع دول أوروبا وصارت روسيا والمانيا تحاولان الاشتراك في هذه الغنائم. وبالرغم من اختلاف الدول الكافرة على اقتسام الدولة الإسلامية وصراعهم عليها، فإنها كلها كانت متفقة على إزالة نظام الإسلام. ولذلك فكرت كلها في إجبار الخلافة في استانبول على التخلي عن نظام الإسلام في الحكم والمجتمع والسياسة وإكراهها على تطبيق التشريع الغربي في القضاء، والنظام الرأسمالي في الاقتصاد، والنظام الديمقراطي في الحكم، فكان مؤتمر برلين الذي عقد سنة 1850 بين الدول الكافرة في أوروبا، وكان منها رأس الكفر انجلترا الممثلة برئيس وزرائها حينئذ اليهودي الخبيث دزرائيلي، ومنها ألمانيا الممثلة برئيس وزرائها بسمارك، واتفق المؤتمر على إرسال مذكرة إلى خليفة المسلمين يطلب فيها منه أن يترك النظام الديني وأن يأخذ بالنظام المدني، وبُعثت بلهجة تهديدية. وما أن سُلمت هذه المذكرة إلى الباب العالي في استانبول حتى نشط المثقفون والسياسيون في الدعوة إلى إيجاد النظام المدني والسير مع العصر، فأثّر ذلك على الخليفة ووُجد في الأوساط السياسية والأوساط المتعلمة رأي عام لتغيير الأحكام الشرعية وجعْل القوانين الغربية مكانها. وما هي إلاّ فترة قصيرة حتى بدأ هذا التغيير، ففي سنة 1275 هجرية الموافق سنة 1858 ميلادية وُضع قانون الجزاء العثماني، وفي سنة 1276 هجرية الموافق 1858م وُضع قانون الحقوق والتجارة، وفي سنة 1286هـ الموافق 1868م وضعت المجلة قانوناً للمعاملات، إذ لم يجد العلماء ما يبرر إدخال القانون المدني كما وجدوا المبرر لباقي القوانين، فاستُبعد القانون المدني ووضعت المجلة قانوناً من الأحكام الشرعية مع التوفيق بينها وبين القانون المدني ما أمكن هذا التوفيق، فوضعت أحكاماً شرعية لكن لا على أساس قوة دليلها بل على أساس أن توافق القانون المدني الفرنسي، ثم في سنة 1288هـ الموافق 1870م جُعلت المحاكم قسمين: محاكم شرعية ومحاكم نظامية، ووُضع لها نظام، وفي سنة 1295هـ الموافق 1877م وُضعت لائحة تشكيل المحاكم النظامية، وفي سنة 1296هـ الموافق 1878م وُضع قانون أصول المحاكمات الحقوقة والجزائية.