عرض مشاركة مفردة
  #18  
قديم 06-07-2005, 09:39 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]إذا كان هذا واقع الأمّة الإسلامية، والأمّة هي التي تجمعها عقيدة واحدة انبثق عنها نظامها، والأمّة قد انفصل نظامها عن عقيدتها عملياً وعند الرأي العام، وصار هذا الفصل هو العرف العام المقبول، فكيف تبقى بعد ذلك أمّة مستكمِلة الربط؟ وإذا كانت الأمّة مجموعة من الناس مع مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات تربطها عقيدة واحدة وقد أصبحت لدى الأمّة أكثر المفاهيم مفاهيم غير إسلامية وأكثر المقاييس مقاييس غير إسلامية وصارت أكثر قناعاتها قناعات غير إسلامية، فكيف يمكن أن يبقى كيان الأمّة وقد تغير فيه ما يجعله كياناً إسلامياً؟ لا شك أن ذلك كله يدل بشكل بارز على أن الأمّة صارت مشرفة على خطر الفناء.

إنه من الخطأ أن يقال إن الأمّة على مفترق طرق، فإن ذلك كان قبل نحو قرن تقريباً يوم بدأت تأخذ أفكار الغرب إلى جانب أفكار الإسلام. ومن الضلال أن يقال إن الأمّة الإسلامية في طريق الفناء، فإن ذلك كان يوم دُمرت الخلافة الإسلامية وغاض حكم الله من المجتمع في جميع أنحاء الأرض. أمّا الآن وقد صار فصل أحكام الإسلام عن الدولة رأياً عاماً ويُحمل له كل الثقة والولاء، وصارت أفكار الإسلام في الأذهان بقايا تراث تاريخي يُحمل له الولاء الروحي وحده من البعض ويُحمل له العداء والاحتقار من البعض الآخر، وصارت المشاعر الإسلامية في النفوس غير موجودة في رعاية الشؤون، ولا في شؤون الحياة الدنيا، فإن هذا يعني أن الأمّة الإسلامية وصلت إلى حافة الهاوية، ولم يبق بينها وبين الفناء سوى أن يعمها الفناء.

أيها المسلمون

هذا هو واقع الأمّة الإسلامية: انعدام الثقة بصلاحية الإسلام لأن يكون نظام حياتها في العصر الحديث. ثم فصْل أفكار الإسلام ووجهة نظره في الحياة عن شؤون الحياة الدنيا، وفصْل التشريع الإسلامي عن الدولة، واعتبار هذا الفصل للأفكار والتشريع ضرورة حياتية يقتضيها وجودنا وتقدمنا بين الناس. فأزمة الأمّة هي أزمة ثقة بنظام الإسلام لا أزمة ثقة بالإسلام. فكان من جراء هذه الأمّة أن فقدت الأمّة الحافز الحاد الذي يدفعها للحياة، فكان فيها هذا الجمود وكان فيها هذا الموت وكان فيها هذه الحال التي جعلتها على حافة الهاوية المشرفة على خطر الفناء.

فالقضية في الأمّة الإسلامية هي انعدام الثقة بما ينبثق عن عقيدة الإسلام من أفكار عن الحياة، ونظم لتنظيم العلاقات، انعداماً وصل إلى حد القناعة التامة، فنجم عنه فقدان الحافز الحاد الذي يدفع كل أمّة في الحياة. هذه هي القضية التي يوضع الاصبع عليها، والتي يجب أن تكون محل البحث أو موضع العلاج.

إنه من الخطأ أن يقال إن القضية هي قضية العقيدة الإسلامية، لأن هذا يعني اتهام المسلمين في إيمانهم وهذا غير صحيح وأمر في منتهى الخطر، فالعقيدة الإسلامية موجودة عند كل مسلم ولكنها فقدت ثلاثة أمور هامة: فقد فقدت علاقتها بأفكار الحياة وأنظمة التشريع فغاضت منها الحيوية، لأن العقيدة العقلية إذا انفصلت أفكارها عنها ماتت وكانت جثة هامدة. وفقدت أيضاً تصورها ما بعد الحياة فلم تعد تواجه في سيرها يوم القيامة وحسابه، ولم يعد يهزها عذاب الله ولم تعد تثيرها جهنم ولا يخوفها الجحيم. كما أنها لم تعد تستهدف الجنة ولا تشتاق لنعيمها ولا يجذبها إليها ما فيها من نعيم مقيم ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولم تعد بالتالي تستهدف رضوان الله غاية الغايات عند المسلمين. وفقدت كذلك ارتباط جماعة المسلمين كجماعة بهذه العقيدة باخوة إسلامية، فصاروا شعوباً ودولاً، وصاروا جمعيات وأسراً، بل صاروا أفراداً أفراداً.

هذه الأمور الثلاثة فقدتها العقيدة الإسلامية من نفوس المسلمين فكانت جثة هامدة. أمّا العقيدة نفسها فلا تزال موجودة عند كل مسلم ولا يزال كل مسلم يقول صباح مساء: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، وإن كان قوله هذا لم يحرك شعرة في بدنه، ولا خلجة من قلبه، ولا شيئاً من مشاعره، ولا يدفعه في الحياة قدر أصبع، ولا يمنع عنه من التأخر والانحطاط شيئاً، وبذلك فإن المسلمين لم يفقدوا العقيدة الإسلامية وإنّما فقدوا الثقة بما ينبثق عن هذه العقيدة الإسلامية.

وإنه من التضليل أن يقال إن القضية قضية اقتصادية، لأن هذا يعني أن الفقر هو سبب انحطاط الأمّة والغِنى هو سبب رِفعتها، وهذا باطل لا شك فيه. فالغِنى لا ينهض بالفرد ولا ينهض بالأمّة، لأن النهضة هي الارتفاع الفكري، والنهضة الصحيحة هي الارتفاع الفكري على الأساس الروحي، فإذا وُجدت الأفكار وُجدت النهضة وإذا عدمت الأفكار كان الانحطاط. فإن الأفكار في أية أمّة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمّة في حياتها إن كانت أمّة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمّة عريقة في الفكر. وإذا دُمرت ثروة الأمّة المادية فسرعان ما يمكن تجديدها ما دامت الأمّة محتفظة بثروتها الفكرية. أمّا إذا تداعت الثروة الفكرية وظلت الأمّة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة وترتد الأمّة إلى حالة الفقر. على أن واقع الأمّة الإسلامية أنها من أغنى الأمم إن لم تكن أغناها إذا جُمعت ثروتها في دولة واحدة كما يفرض ذلك الإسلام على جميع المسلمين. وفوق ذلك فإن الاقتصاد حتى ينمو وينتقل من الزراعة وحدها إلى الزراعة والصناعة بحيث تكون الصناعة هي رأس الحربة، لا بد له من حافز يحفز الأمّة على السعي للاقتصاد، وهذا الحافز الحاد لا ينبثق إلاّ عن فكر. ومن أعظم الفكر العقيدة العقلية التي تنبثق عنها أفكار الحياة. وعليه فالقضية ليست قضية اقتصادية وإنّما هي قضية فكرية، أي قضية الثقة بما ينبثق عن عقيدتهم من أفكار.

ومن السطحية أن يقال إن القضية قضية تعليم وعلوم، لأن هذا يعني أن العلوم هي الحافز وليس الأفكار، مع أن الواقع أن الأفكار هي الحافز والعلوم إنّما تتأثر بالأفكار ارتفاعاً وانخفاضاً ووجوداً وعدماً. والفرق بين الأفكار والعلوم أن الأفكار هي النظرة إلى الأشياء والأفعال للوصول إلى تعيين الاتجاه بالنسبة لها، أمّا العلوم فهي النظرة إلى الأشياء نفسها لمعرفة كنهها. والذي يسيّر الحياة هو الأفكار وليس العلوم. وأن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمّة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها. أمّا إذا فقدت طريقة تفكيرها أي فقدت فكرها فإنها سرعان ما ترتد إلى الوراء وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات.

على أن الأمّة الإسلامية فيها من المتعلمين والمثقفين عدد ضخم يعد بمئات الألوف، ومع ذلك لا تزال متأخرة في الاكتشافات والاختراعات لأنه لا يوجد فكر يسيّر هذه المعارف والعلوم نحو غاية معينة فيدفعها إلى الإمام لخدمة تلك الغاية السامية. وفوق ذلك فإن العلماء والمخترعين يملؤون الأرض وهم أُجراء ويمكن إحضارهم من أية أمّة من الأمم أُجراء، ولكن إحضارهم وإحضار أمثالهم لا يعالج المشكلة إذا لم يوجد فكر، فالمسألة مسألة فكر.

ومن غير الدقة أن يقال إن القضية قضية تشريع وقوانين، لأن هذا يعني أن القوانين هي أساس الحياة وأساس الدولة وهذا غير صحيح. فإن القوانين والأحكام إن هي إلاّ معالَجات للمشاكل اليومية التي تحدث مع البشر منبثقة عن وجهة النظر في الحياة. فالأصل هو وجهة النظر التي انبثقت عنها القوانين وليست القوانين، ألا ترون أن الكفار من رعايا الدولة الإسلامية كانت تطبَّق عليهم نفس الأحكام التي كانت تطبَّق على المسلمين ولم يكن هنالك فرق بينهم وبين المسلمين في تطبيق الأحكام، فالمسلمون والكفار أمام القاضي وأمام الحاكم سواء، ومع ذلك فقد كان المسلمون في الدولة الإسلامية هم أصحاب الرسالة وهم حملة الدعوة، وتتمثل فيهم النهضة. والكفار كانوا تحت ظل الإسلام يُعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. ثم ألا ترون الآن أن المسلمين في أكثر بقاع الأرض يطبَّق عليهم التشريع الغربي والقوانين الغربية ولكن لأنهم لا يزالون يعتنقون العقيدة الإسلامية فلم تنبثق القوانين من عقيدتهم وإن انبثقت عما أصبح رأياً عاماً عندهم، ومع ذلك فهم لم يلحقوا بالغرب بالنهضة، ولم يحصل عندهم ارتفاع فكري، ولا يزالون منحطين متخلفين عن الغرب قروناً وأجيالاً، مع أنه مضى عليهم يطبقون القوانين الغربية قرابة أربعين عاماً، مما يدل على أن القضية ليست قضية تشريع وقوانين وإنّما هي ما تنبثق عنه هذه القوانين من وجهة نظر، أي هي قضية جعل العقيدة تنبثق عنها القوانين الموثوق بصلاحها، أو جعل القوانين منبثقة عن عقيدة. فالقضية إذن قضية الثقة بالقوانين من حيث انبثاقها عن العقيدة، أي قضية وجهة النظر في الحياة، وما يسمونها في العصر الحديث "بالايديولوجية".

وعلى هذا فالقضية هي الأمّة الإسلامية بوصفها أمّة وبوصف هذه الأمّة أمة إسلامية. وقضية الأمّة الإسلامية هذه ليس إيجاد العقيدة الإسلامية عندها، ولا هي تقوية اقتصادها، ولا إيجاد التعليم والثقافة فيها، ولا هي إصلاح تشريعها وإيجاد دستور وقوانين لها، وإنّما القضية هي ربط عقيدتها بدستورها وقوانينها، أي جعل التصديق الجازم المطابق للواقع الموجود عند الأمّة في عقيدتها منصباً على الأفكار والأحكام الشرعية المستنبَطة من الكتاب والسنّة ومما دل الكتاب والسنّة على أنه دليل شرعي. وبعبارة أخرى هي إيجاد الثقة بالأفكار والنظم المنبثقة عن العقيدة الإسلامية. هذه هي القضية بالدقة والتحديد.