عرض مشاركة مفردة
  #19  
قديم 06-07-2005, 09:40 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

أمّا كيف تعالَج هذه القضية، فإن علاجها محصور بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها الخطأ لإصلاح هذا الخطأ، وليس هناك شيء غير هذا مطلقاً. فالمسلمون لا يزالون مسلمين رغم كل ما هم عليه، فلا تزال عقيدتهم عقيدة إسلامية، والإسلام لا يزال في أصوله الكتاب والسنّة كما كان في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والأحكام الشرعية المستنبَطة لا تزال كما كانت في العصر الذي استُنبطت فيه، أي في العصر الأموي والعصر العباسي، وكيفية الاستنباط لا تزال كما كانت يوم وُضع علم أصول الفقه. فليس هناك نقص في اعتقاد المسلمين بالإسلام، ولا هناك تغيّر في الإسلام، وإنّما هنالك فقط زعزعة في الثقة بالأفكار والأحكام المنبثقة عن العقيدة الإسلامية ترتب عليها إيجاد خلل في كيان الأمّة، وإيجاد خلل في كيان الدولة، أدى إلى تدمير الدولة، وسار في الأمّة في طريق الفناء حتى جعلها على حافة الهاوية تشرف على خطر الفناء. فالعلاج إنّما يكون بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها الخطأ، أي إلى علاج الزعزعة التي حصلت في الثقة بالأفكار والأحكام المنبثقة عن العقيدة الإسلامية، فإن هذه الزعزعة هي التي دمرت الدولة، وتوشك أن تفني الأمّة. والغاية من العلاج هي إنهاض الأمّة، وإعادة الدولة، لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدولة الإسلامية إلى العالم.

هذا هو الموضوع، وهذا هو بيت القصيد. يقولون إن الثقة ناجمة عن القناعة بصحة الشيء وصدقه، والقناعة آتية من المشاعر فهي تأتي للإنسان من غير براهين وتذهب دون براهين، فالثقة ليست شيئاً ممكن الحصول بالحجة والمنطق، بل بإيجاد القناعة، وهي تأتي اعتباطاً وتذهب اعتباطاً. وهذا الكلام باطل غير مطابق للواقع. فالثقة صحيح أنها ناجمة عن القناعة بصحة الشيء وصدقه أي بمطابقته للواقع أو للفطرة، ولكنها تحصل بناء على برهان يثبت صحة الشيء وصدقه، وهذا البرهان إما أن يكون عقلياً مرتبطاً بالمشاعر، أي يقوم الدليل العقلي على صحته وصدقه ويشعر الشخص شعوراً صادقاً بصحته وصدقه، وإما أن يشعر الشخص بصحته وصدقه فقط من غير أن يقوم دليل عقلي عليه، ومن تكرار ذلك تصل القناعة وتتولد منها الثقة. فالثقة لا تأتي اعتباطاً ولا تذهب اعتباطاً، وإنّما تأتي من تكرار ثبوت مطابقة الشيء للواقع أو الفطرة عقلياً أو شعورياً، أي من تكرار ثبوت صحة الشيء وصدقه، وتذهب من تكرار ثبوت عدم صحته وصدقه. هذا هو الذي يوجِد القناعة وهذا هو الذي يزعزعها ويُذهبها. يعني أنه حتى توجد الثقة لا بد أن تنتقل صحة الشيء وصدقه من دور إقامة البرهان إلى دور البداهة، وذلك بتكرار ثبوت صحته وصدقه بالبرهان عقلياً وشعورياً. وكما يصعب إيجاد الثقة لا سيما في جو التشكيك يصعب زعزعة الثقة ولا سيما في جو الإيمان. ولذلك كما صعب على الكفار الغربيين زعزعة الثقة بصلاحية أحكام الشريعة الإسلامية لمعالجة مشاكل العصر وقد كان الجو جو إيمان، كذلك ليس من السهل على العاملين للإسلام أن يعيدوا هذه الثقة بصلاحية الإسلام، أي أن يركزوا وجهة النظر الإسلامية في الحياة أو طريقة الإسلام الخاصة في الحياة وما يسمونه الايديولوجية ولا سيما والجو جو تشكيك.

ولمّا كان وضع الثقة في نفوس المسلمين وسائر الناس لا يتأتى إلاّ بإقامة البرهان العقلي والشعوري على صحة الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية وصدقها، كان لا بد أن تكون الخطوة الأولى في إعادة الثقة بالإسلام من أجل إنهاض الأمّة وإقامة الدولة أن تنطق الوقائع الملموسة والحوادث الجارية بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها حتى يوجد البرهان العقلي والشعوري الذي يوجِد القناعة بهذه الصحة وهذا الصدق لتحصل بناء على ذلك الثقة بها.

أمّا كيف تُجعل الوقائع تنطق بذلك، فإنه يكون بحمل الدعوة الإسلامية بالطريق السياسي، أي بالعمل لإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الأفكار الإسلامية التي لها واقع يجري التعامل بين الناس به، سواء أكانت أفكاراً تتعلق بشؤون الحياة أو تتعلق بتنظيم العلاقات، أي بالعمل السياسي لإقامة الخلافة الإسلامية عن طريق بث الأفكار الإسلامية والكفاح في سبيلها.

وذلك أن الناس يُحكمون من قِبل سلطة قائمة يتولاها حكام منهم أو من غيرهم، وهؤلاء الحكام إنّما يرعون شؤون رعاياهم بأفكار وقوانين معينة. فهذه الرعاية تكون لوقائع معينة بأفكار معينة، أي تكون لمشاكل معينة بمعالجات معينة. فهذه الوقائع ملموسة محسوسة ومعالجاتها ملموسة مدرَكة ونتائجها من حيث توفير المصلحة والمحافظة عليها مدرَكة. فما على الذين يعملون لإقامة الدولة الإسلامية على أنقاض هذا الحكم إلاّ أن يلفتوا نظر الناس إلى فساد هذه المعالَجات، أي إلى بطلان الأفكار والأحكام التي عولجت بها هذه الوقائع وأن يبينوا أن العلاج الصحيح لها إنّما هو فكر كذا أو حكم كذا، وأن هذا هو فكر الإسلام أو حكم الإسلام، فيُنزّل الفكر الإسلامي أو الحكم الإسلامي على الواقعة الجارية، فيدرَك حينئذ واقع الحكم ويُلمس مدلوله، فيحرك العقل ويثير المشاعر.

أمّا كيف يبيَّن بطلان الأفكار والأحكام التي عالج بها الحكام هذه الوقائع، فإنه لا يصح أن يكون من حيث تحقق المصلحة أو عدم تحققها، بل يجب أن يكون البيان من حيث كونها أفكار كفر أو أحكام كفر، فلا يصح أن يكون بيان بطلانها ببيان أنها لا تحقق المصلحة أو ببيان ما ينجم عنها من ضرر، ولا ببيان أنها لا تحافظ على المصلحة أو بيان أنها تضيع المصلحة، بل يجب أن يكون بيان بطلانها من حيث أنها أحكام غير إسلامية، وأنها أحكام كفر، وأن التحاكم إليها تحاكُم إلى الطاغوت. فبطلانها الذي يجب أن يبيَّن هو كونها أفكار كفر وأحكام كفر، لأن المسألة هي من حيث الكفر والإسلام لا من حيث المصلحة وعدمها. وكذلك حين يبين أن العلاج الصحيح لها هو فكر كذا أو حكم كذا وهو فكر الإسلام وحكم الإسلام لا يصح أن يبيَّن صلاحه وتُشرح صحته من حيث كونه يحقق المصلحة أو يزيل الضرر، بل يجب أن تبيَّن صحته ويُشرح صلاحه من حيث كونه حكماً شرعياً بالإتيان بدليله الشرعي من الكتاب أو السنّة أو من قاعدة مستنبَطة من الكتاب أو السنّة أو من كونه فرعاً أو مسألة من فروع ومسائل حكم شرعي مشهور الدليل.

هذه هي الكيفية التي يتبين فيها بطلان المعالَجات المعينة التي يعالج بها الحكام مشاكل معينة، والكيفية التي يبين فيها صحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها، أي يجب أن تُربط معالجات الواقع الجارية بالعقيدة الإسلامية مباشرة، فتُجعل العقيدة الإسلامية وحدها الأساس الذي تجري عليه النظرة إلى هذه الأفكار والأحكام، فيُنظر إليها نظرة إسلام وكفر ليس غير. على أن الأحكام التي في الدنيا هي إما أحكام إسلام وإما أحكام كفر ولا ثالث لهما، وحتى العالم كله إما دار إسلام وإما دار كفر ولا ثالث لهما، فيجب أن يكون نقد الأفكار والأحكام على هذا الأساس وحده، أي إسلام أو كفر ولا شيء غير ذلك مطلقاً. فيجب أن يقال عن الفكر أو الحكم هذا كفر إن كان كفراً أو هذا حرام إن كان حراماً، وأن يبيَّن الدليل الشرعي على أنه كفر والدليل الشرعي على أنه حرام. ويجب أن يبرز للناس أن آخِذ الفكر أو الحكم غير الإسلامي يخرج عن الإسلام فيكفر ويرتد إن كان الفكر أو الحكم داخلاً تحت أوامر الله المتعلقة بالإيمان كفكر فصل الدين عن الدولة، وكالتبرع لبناء كنيسة، ويرتكب معصية يعذب عليها في جهنم إن كان الفكر أو الحكم من أوامر الله المتعلقة بالأعمال ولم يكن متعلقاً بالإيمان كفكر القومية وكفتح الاعتماد في البنك. أي يجب أن يُجعل أساس الأفكار والأحكام العقيدة الإسلامية وأن يكون مقياسها الإسلام والكفر والحلال والحرام، فيُحكم ببطلانها أو بصحتها على هذا الأساس وبموجب هذا المقياس.

فالنظر حين يُلفت إلى فساد المعالَجات الجارية إنّما يُلفت لبيان فساد المجتمع الحالي، أي فساد العلاقات القائمة بين الناس. وفسادها ليس آتياً من حيث كونها تجلب منفعة أو تدفع ضرراً أو العكس، وإنّما آت من فساد وجهة النظر في الحياة التي تتحكم في هذه العلاقات وتنبثق عنها هذه المعالَجات، ولذلك يجب أن تُربط بأصلها ويبيَّن بطلانها من حيث بطلان أصلها لا من حيث المنفعة والضرر، فكان من المحتم أن تُربط المعالَجات بالعقيدة المنبثقة عنها، وأن تُضرب هذه المعالَجات باعتبارها منبثقة عن عقيدة فاسدة، أي باعتبارها أفكار كفر وأحكام كفر، بغض النظر عن وجود المصلحة أو عدم وجودها. ولهذا كان لزاماً أن يكون ضرب العلاقات القائمة بين الناس باعتبارها علاقات قائمة على أفكار كفر أو أحكام كفر، وأن يركز ضربها على هذا الأساس، لأن الغاية من ضربها إنّما هي تغيير المجتمع الحالي باعتباره مجتمعاً غير إسلامي، وإزالة الأفكار والأحكام الحاضرة باعتبارها أفكار كفر وأحكام كفر لإقامة المجتمع الإسلامي وإيجاد أفكار الإسلام وأحكامه في العلاقات القائمة بين الناس. أي أن الغاية هي جعل وجهة النظر الإسلامية في الحياة هي السائدة، وجعل طريقة الإسلام في الحياة هي طريقة الناس في العيش سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، وهذا لن يتأتى ببيان المنافع والمضار، ولن يتأتى إلاّ بجعل العقيدة الإسلامية وحدها الأساس للحياة وجعل الحلال والحرام المقياس الوحيد للأعمال.

فالقضية هي إعادة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه باعتبارها أفكاراً إسلامية وأحكاماً إسلامية مستنبَطة من الكتاب والسنّة أو ما يرشد إليه الكتاب والسنّة من أدلة، وليست القضية إعادة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه باعتبارها نافعة أو ضارة. والعمل المباشر هو ضرب علاقات قائمة قد أتى بطلانها وفسادها من وجهة النظر التي انبثقت عنها، فكان حتمياً أن يكون هذا الضرب للعلاقات القائمة أي للأفكار والأحكام التي بها يرعى الحكام شؤون الناس ويعالِجون مشاكلهم ضرباً لأفكار كفر وأحكام كفر بوصفها كفراً، بأفكار إسلامية وأحكام إسلامية بوصفها إسلامية ليس غير. وهنا يحصل الصراع العنيف حول هذه الأفكار والأحكام، ويكون صراعاً عقائدياً تصطدم فيه العقول والمشاعر مع بعضها اصطداماً فكرياً ومشاعرياً يقدح الشرر منه فيلمع ضوء الحقائق ويشرق نورها فيتجلى فساد الأفكار والأحكام الجارية بظهور فساد وجهة النظر المنبثقة عنها، ويلمس المسلم ارتباطها بعقائد الكفر وانبثاقها عن نظر الكفر، كما يلمس الكافر والمنافق من الصراع الفكري والنقاش العميق بطلان وجهة نظر الكفر هذه وصحة وجهة نظر الإسلام. وحينئذ يلمس الناس فساد النظام القائم وصلاح حكم الإسلام، وبذلك تنطق الوقائع الملموسة والحوادث الجارية بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها، فإذا تكرر ذلك أي تكرر ثبوت صحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وُجدت القناعة بها وتولدت عن هذه القناعة الثقة بها وحدها دون سائر الأفكار والأحكام الموجودة في العالم. فإذا عمّت هذه القناعة الناس وتركزت الثقة في نفوسهم ووُجد رأي عام منبثق عن وعي عام فإنه ولا شك تكون قد دبّت النهضة في الأمّة وأقامت الدولة مهما وقف في سبيلها من عقبات، لأن الأفكار الدينامية تنسف أكبر قوة سياسية وتدمر كل فكر باطل وكل حكم فاسد.