عرض مشاركة مفردة
  #19  
قديم 01-08-2006, 03:49 AM
حق وعدل حق وعدل غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2006
المشاركات: 138
إفتراضي

خامساً: إن هناك فرقاً كبيراً بين من يقصّر حيناً، ويتجاوز حينا،ً ويظلم حيناً آخر، لجهل، أو لمحاباة، أو لهوى، وبين من يسن الأنظمة ويجعلها تشريعاً ملزماً للناس ويؤسس لها المحاكم والهيئات والمجالس. ومن الضروري التفريق بين الصنفين لأن الصنف الأول رغم أنه جريمة كبيرة، إثمها عظيم، فقد لا يكون كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، أما الثاني فهو بلا شك كفر أكبر ناقل عن الملة. قال الشيخ محمد بن إبراهيم في الصنف الأول: [أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة، والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر، وقوله أيضاً: «ليس بالكفرالذي تذهبون»، فذلك مثل أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى، وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملّة، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفرا، أعظم من معصية لم يسمّها الله كفراً]، (الرسالة ص8). وقال في وصف الصنف الثاني: [وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً، وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك، فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة، من أحكام ذلك القانون، وتلزم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة]، (الرسالة ص 7).

سادساً: مجرد زعم الحاكم أو النظام أنه يحكم بالإسلام ويطبق الشريعة لا يُغني شيئاً إذا كان يحتكم إلى غير شرع الله، قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}. وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في تفسير هذه الآية: [فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده، فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: {يزعمون} من نفي إيمانهم، فإن يزعمون إنما يُقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: {وقد أمروا أن يكفروا به} لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال، وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بيّنٌ في قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به]، فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص 393). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في تفسيرها: [فإن قوله عز وجل: {يزعمون} تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه]، (رسالة تحكيم القوانين).

بل إن مفتي آل سعود الحالي، عبد العزيز بن باز يقول بصراحة، في كلام متين: [وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله، فهي دولة جاهلية، كافرة، ظالمة، فاسدة، بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها، ومعاداتها في الله! وتحرم عليهم مودتها، وموالاتها، حتى تؤمن بالله وحده، وتحكم شريعته] اهـ من (نقد القومية العربية). ونحن لا نستشهد بكلام مفتي آل سعود لأنه حجة عندنا، فهو ليس كذلك: فليس هو بحجة، ولا هو بثقة، ولا مأمون، ولا كرامة، ولا لنتكثر به، هو وأمثاله من فقهاء السلاطين، لا كثَّرهم الله، ولكن لنقيم عليه الحجة أمام عامة الناس من نص لفظه، وإقراره على نفسه! فهل كان ما قاله حقاً في حق البائس جمال عبد الناصر، ثم انقلب باطلاً، لا يمكن تطبيقه على آل سعود، الزنادقة الفاجرين؟!

ومن هذا المنطلق نتوجه لنرى حال الحكم السعودي: هل جعل السيادة للشرع في الأنظمة والسياسات واقتصرت مخالفاته على بعض التقصير والتجاوز وبعض المظالم أما لجهل أو لمحباة أو لهوى، كما وقع لكثير من خلفاء المسلمين في التاريخ الإسلامي، أم أن الأصل في حكم آل سعود الحالي هو تعطيل سيادة الشرع وتحكيم القوانين والأنظمة غير الشرعية وحصر المحاكم الشرعية فيما يحال إليها من الحكام ثم تخويل الحكام وأمراء المناطق حق تعطيل الأحكام التي تصدرها تلك المحاكم أو إلغاءها. والمتأمل بدقة للواقع التشريعي وأحوال القوانين والأنظمة في المملكة لا يسعه إلا أن يخرج باستنتاج أكيد: أن واقع المملكة ينطبق تماماً، وبلا جدال على الحالة الثانية. ولكن الدولة تتهرب من كلمة تشريعات وقوانين وتستخدم بدلاً من ذلك عبارات أنظمة ولوائح، وتعليمات، وأوامر، ومراسيم، وهي في حقيقتها تشريعات كاملة بما تحويه كلمة تشريع من معنى، ففيها نصوص بالإيجاب، ونصوص بالمنع، ونصوص بالعقوبات، ونصوص بإباحة الحرام، وتحريم الحلال، والذي يدعي أنها مجرد أنظمة إجرائية ليس لديه من علم الشريعة ولا القانون شروى نقير.

من هذه الأنظمة: نظام الأوراق التجارية ونظام الشركات، ونظام العمل والعمال، ونظام مراقبة البنوك، ونظام الجنسية العربية السعودية (وهو نظام عنصري ملعون، وهو من أخبثها وأنتنها)، ونظام المطبوعات والنشر، ونظام المؤسسات الصحفية، ونظام الأحكام العامة للتعرفة الجمركية، ونظام الجيش العربي السعودي، ونظام العلم الوطني، وغيرها من القوانين والتشريعات، وغير ذلك مما سيأتي تفصيله فيما بعد.

والمتأمل لهذه الأنظمة يكتشف أن الإسلام في وادٍ وحكم آل سعود في واد آخر، فمصادر تشريع هذه الأنظمة كما تجد في مقدمة كل نظام منها أنها مستنبطة من مصادر غربية أو مجموعة من عدة مصادر قد تكون الشريعة من بينها. وتصل الوقاحة في بعض الأحيان أن تعتبر الشريعة مصدراً احتياطياً للتشريع كما في نظام هيئة تسوية المنازعات لدول مجلس الخليج العربي، وكما في المادة (185) من نظام العمل والعمال، كما نصت هذه الأنظمة على كل أشكال التشريع: فنظام الجيش العربي السعودي، ونظام الأوراق التجارية، ونظام مكافحة الرشوة، وغيرها كثير، فيها عدد كبير من العقوبات لا يمت للإسلام بصلة، ونظام الأوراق التجارية، ونظام الشركات وغيره، يحوي أشكالاً من فض المنازعات وأنماط الصلح المخالفة للشريعة جملة وتفصيلا، ونظام مراقبة البنوك يبيح بلا تحفظ جميع الأنشطة الربوية التي حرمت بالدليل القاطع من الكتاب والسنة، ويعتبرها محمية من قبل الدولة، بل لقد ورد فيه نصوص مخالفةً للشرع من جميع الوجوه، وأعطت الملك حق الربوبية الكامل، بلا تحفظ! تقول المادة (27) من نظام المحاكمات العسكرية: «ولصاحب الولاية (الملك) وحده حق تنفيذ الأحكام أو توقيفها أو استبدال حكم بحكم فيها». وسعياً لإمضاء هذه التشريعات والقوانين المسماة أنظمة فقد شكلت الدولة محاكم غير شرعية أسمتها لجاناً وهيئات ودواوين ومجالس ويشترط في أعضاء هذه المحاكم أن يكونوا متقنين لما ورد في تلك الأنظمة والقوانين لا أن يكونوا شرعيين.

وقد تقصّى أحد الباحثين هذه المحاكم فوجدها أكثر من ثلاثين لجنة أو هيئة كلها تمارس دوراً قضائياً مناهضاً للشرع، ومنها على سبيل المثال هيئة فض المنازعات المصرفية، والمحاكم التجارية، وديوان المحاكم العسكرية، وغيرها كثير. وهكذا فالمحاكم الشرعية عملياً محصورة في شؤون محدودة ومع ذلك فهي نفسها لا تسلم من هيمنة القوانين غير الشرعية فالقضاة الشرعيون ملزمون بالتزام تعميمات مجلس الوزراء، والوزارات المختصة، والإمارات، والبلديات، حتى لو خالفت تلك التعليمات الشرع. وأحكام القضاة المخالفة لتلك التعليمات أو للأنظمة المذكورة أعلاه غير نافذة أبداً، بل إن القاضي نفسه لا يمكن أن ينظر في كثير من القضايا إلا (حسب النظام) والنظام هو تصنيف القضايا بما يضمن حصار الشرع في حدود معينة وإطلاق يد القانون الوضعي في مساحات كبيرة. فهذا هو الواقع إذن: السيادة ليست للشرع والهيمنة ليست للإسلام، والقوانين والتشريعات غير الإسلامية، والمخالفة للشرع، قد سرت في معظم أنظمة الدولة، والقضاة الشرعيون محاصرون في دوائر صغيرة لا يستطيعون تجاوزها. فكيف يمكن أن يدعي مدعٍ أن هذه الدولة تطبق الشريعة أو تحكم بالإسلام، وكيف يشك طالب حق أن الاحتكام إلى تلك التشريعات احتكام إلى الطاغوت؟! ولعلنا أثبتنا هنا أن هذه المظاهرة للشرع ليست تجاوزاً عن هوى أو رغبة في الجبروت والظلم مع هيمنة الشرع، بل هي ترسيخ لغير شرع الله، وحصار لشرع الله، ولكن هل يمكن أن يكون ذلك جهلاً أو غفلة؟

والإجابة على ذلك سهلة وقصيرة وهي أن الحجة في العلم قد قامت على الحكام بلا شك ولا جدال فلقد وقف العلماء من أمثال الشيخ بن عتيق، والشيخ بن سعدي، والمفتي السابق الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهم الله جميعاً في وجه تلك التشريعات بشكل صريح ودوّنت مراسلات الشيخ محمد بن إبراهيم في إنكار تلك القوانين والأنظمة والتحذير منها واحداً واحداً ( كما أثبتنا جزءاً يسيراً من ذلك في الملحق). وبدلاً من أن يرتدع آل سعود ويعملوا بنصيحة الشيخ محمد بن إبراهيم فقد منعوا، بالقوانين نفسها، وبأمر ملكي طبع وتوزيع مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم حتى لا يفتضح هذا الكفر والنفاق، وحديثاً قدم العلماء لهم النصيحة مرة أخرى بشكل منهجي ومركز في «مذكرة النصيحة» بطريقة لا تدع مجالاً لهم أن يدعوا الجهل وسوء الفهم فالحجة كما نراها قامت عليهم قطعاً بلا جدل.

وعلى كل حال فوجود العذر بالجهل، لا يغير من حقيقة الكفر البواح في حد ذاته! فالكفر يبقى كفراً بغض النظر عن عذر فاعله أو عدم عذره. وهذ ا العذر أو عدمه إنما يؤثر على أحكام الفرد المعني في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما، لكنه لا يؤثر أبداً في الحكم على النظام بوصفه نظام، أو على الدولة بوصفها شخصية معنوية.

ولا نظن أحداً من أهل العدل يجادل بعد هذا الاستعراض أن الحكم السعودي يحكم بغير ما أنزل الله، وأن تلك الشعيرة العظيمة، التي هي أم الشعائر، ولب التوحيد، معطّلة. والإثم في تعطيلها يقع على الأمة كلها، لأن ذلك من فروض الكفاية، والأمة مسؤولة بعد ذلك أن تسعى بما أوتيت من قدرة واستطاعة أن تقيم هذه الشعيرة حتى تسلم من الإثم، وتؤدي حق الله عليها.

وأخيراً نحذر الذين يدافعون عن النظام بدعوى زعمه تطبيق الإسلام ويستميتون في ذلك أنهم في خطر عظيم، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، [من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم فقد اتخذهم أرباباً]، حاشية (كتاب التوحيد ص 146) .

والآن نتحدث عن التمكين للإسلام ورفع شعائره كواجب من واجبات الدولة الشرعية، ونصيب النظام السعودي من هذا الواجب الشرعي.