عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 06-01-2007, 09:06 AM
الشــــامخه الشــــامخه غير متصل
* * *
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2004
الإقامة: *نجـد* قلبي النابض
المشاركات: 2,423
إفتراضي الطاغية الشهيد 00

الطاغية الشهيد
*محمد حسن علوان

قبل أيام قليلة من هذا العيد، استَلَمَتْ إحدى الأسر الكويتية التي أعرفها مجموعة من الأكياس القطنية، وبعض الصناديق الخشبية، كانت تحوي مجموعة من العظام المكسورة، والرماد البشري، وما تبقى من مزق قماشية أخفى التراب معالمها تماماً، ولم يعد تحتها ما تستره أصلاً. رفات الأبناء الأسرى التي وجدت مؤخراً في مقابر جماعية في العراق.

وجوه الأبناء الحبيبة، أذرع الأزواج الحنونة، لحى الآباء الكريمة، وضفائر الأمهات، كلها عادت على هيئة حفنة من الرماد البشري، استلمه الأهل بقلوب طحنها الحزن طحناً، وبأنفس مقهورة أيما قهر، وأرواح ظلت مغموسة في مرارة الانتظار طيلة سنوات لا يعدها إلا المترقبون المؤمنون الذين لا يشفي صدورهم شيء إلا الحكمة.

أقيمت مراسم العزاء أخيراً في الأبناء الغائبين منذ سبعة عشر عاماً!، لا يدري الناس أيعزونهم على موتاهم، أم على آمالهم التي ظلت تحترق بشكل مستمر طيلة سنوات الانتظار، وأخيراً عاد إليهم أبناؤهم في صناديق، جثثاً منقوصة، مهروشة، مفتتة، ولم يعودوا هم، كما ظلّ الأهلون يمنون أنفسهم بهذه العودة طوال عقدين من الزمان تقريباً، عاد منهم ما أبقاه لهم الدود، والطغيان، والجنون الصدامي البائد، وما نقموا منهم إلا أنهم دافعوا عن وطنهم الصغير الجميل، وكانوا كويتيين، وتلك جنحة كافية في دساتير الغزاة، فاستحقوا ما نالوا!

الآن، كم هو الفرق شاسع عندما يعرض التلفزيون مشاهد إعدام صدام في بيت هذه الأسرة المنكوبة، أو بيت أسرة أخرى، لم ينلهم من أذى صدام وبلواه إلا ما يقرأونه في الصحف، وما يشاهدونه في نشرات الأخبار الحكومية، وما تتناقله الحكايات المتواترة. شتان بين الطفل الذي سمع عن الرعب الصدامي سماعاً وهو ينعم بأمن وطنه، وحنان والديه، وبين الطفل الذي قضى نحبه في عرض الصحراء عطشاً وهلعاً فراراً من غزو الرجل الأثيم. فرق بين الأسر التي كانت (كلاً) كاملاً فصارت (جزءاًً) ناقصاً من جراء القتل والتعذيب والخطف، وبين الأسر التي لم تفقد ظفراً من أظفار أولادها ولا شعرة من مفارق أبنائها، ترى أي الأسرتين أصدق شهادة عندما يتعلق الأمر بمحاكمة صدام معنوياً، وإنسانياً؟

سبحان الله!، أعمتنا الأيديولوجيا تماماً!، ولمجرد أن طقوس محاكمة صدام، وتوقيت إعدامه، لم يرق لعامة الناس، إذا بهم يحولون الطاغية، إلى شهيد، مظلوم، مرحوم، وبطل قومي، وعروبي ومناضل، إلى آخر الدعايات الترويجية التي ظل صدام يبثها عن نفسه طيلة أيام حكمه، وما قبل حكمه.

لم تنطل على الناس إبان حياته السوداء، فإذا بها تنطلي عليهم بعد موته!، وهذا والله من حيل الزمان، ومن عجائب النفوس، ومصداق بين لصعوبة ثبات الحكمة في قلوب البشر، وأنها تتملص منهم في شقوقٍ غائرة من الحمية، والعصبية، والطائفية، فيعود الإنسان جهولا!

ألسنة أناس أعرفهم جيداً، لعنت صدام حتى كلّت إبان أزمة الخليج في بداية التسعينات، عندما كان صدام عدواً مبيناً، يقف على أعتاب حدودنا، ويهدد أمننا، ويرسل صواريخه الشريرة لتروع أمن الرياض التي لم تعرف سماؤها صاروخاً معادياً قط منذ خُلقت المدينة قبل أن يشن صدام حربه علينا، وتقتل الآمنين الطيبين في المنطقة الشرقية، من أولئك الذين لم تحمل قلوبهم يوماً غلاً للعراق وأهله.

الآن، سمعتُ هذه الألسنة نفسها بأذني تترحم عليه بعد إعدامه، وتسبغ عليه فضائل لم يسمع بها صدام نفسه!، وتلتمسُ له أعذاراً مدهشة، وتختلق له مبررات فنتازية لا يحلم بها أي مجرم آخر في التاريخ! نفس الرجل الذي كان يرسل لنا الموت على هيئة صواريخ، تدق لها صفارات الإنذار المشؤومة، أصبحنا، لفرط طيبتنا، نشفق عليه من هذا الموت!

وفي حين أن زوال صدام وأمثاله من الخارطة الإنسانية هو مما يفترض أن يفرح كل إنسان ذي قلب نابض، أصبح منا من ينادي ببقائه، ومستعد لتحمل ما يترتب على بقائه من شقاء، ومذلة، وخطورة، فقط، ليحرم الفئة الأخرى من الفرح!، رغم أن صدام لم يفرق في حياته بين فئة وفئة، ولا بين دين ودين، فالكل سواسية في أقبية سجونه، والكل سواسية أمام فوهة بندقيته، والكل سواسية تحت جنون عظمته، والعزة له وحده.

زرع صدام الحزن في البيوت السعودية، والكويتية، والشيعية، والكردية، والسنية، والمسيحية، والإيرانية، والإسرائيلية على حد سواء!، وسبحان من منحه هذه الموهبة الجغرافية الفذة في توزيع طغيانه بالتساوي على جهات أفقية بهذا التنوع، وسبحان من منحه مهمة تأخير الإنسانية جمعاء، حضارياً، واجتماعياً، وتعطيل عدالة الأرض، فقام بدوره في ذلك على أكمل وجه، وبكل إبداع.

صدام كان رجلاً مصاباً بعدم إدراك للأديان، وللأعراق، وللمِلَل (جمع ملة)، وللجنسيات، ولا فرق عنده بين عربي وأعجمي إلا بمدى منفعتهم لكرسيه، أو تهديدهم له.

فلرب شيعي أعزّه صدام، ورب تكريتي أذله. ورب كردي نال عنده شأناً، ورب بعثيّ ذاق منه ويلات القتل والتشريد. وكل قطرة دم أزهقت من نفس أحد ضحاياه لم تكن إلا قرباناً لسلطته، وتعزيزاً لحكمه، وإرضاءً لشهوته، وإشباعاً لجنونه، ولكن الله سخر لصدام أذهان العوام المهزومين معنوياً، والتي تقلّبها الشعارات اليومية على النقيضين بكل سهولة. فما على صدام إلا أن يقتل، ومن ورائه سيأتي من يزين هذه القتلة، ويختار لها أداة التزيين المناسبة، سواء كانت شعاراً قومياً، أو دينياً، أو أيديولوجياً، يحول فيه القاتل إلى القائد، والمجرم إلى البطل، إلى بقية ألقابه التسعة والتسعين التي أطلقها على نفسه!


"عدو عدوي هو صديقي"، هي العبارة التي قلبت الأذهان والعقول، وجعلت البعض يتجاوز كل المآثم الصدامية ويغفرها غفراناً نهائياً لمجرد أن صدام عدو للأمريكان، وعدو لبعض الطوائف العراقية كما يظنون. عجبتُ وأنا أتأمل هذه الانقلابات الذهنية التي يمارسها البعض بين طرفي الزمن. ويبدو أن الحقائق التاريخية أصبحت مثل المعلبات الغذائية، تنتهي صلاحياتها بمرور الزمن! فمجرم الأمس يمكن أن يكون بطل اليوم إذا جاء في سياق سياسي مختلف!، ويالها من بشرى تبعث الطمأنينة في قلوب طغاة المستقبل، ومجرمي الغد، فهنيئاً لهم، ذاكرة الشعوب الضعيفة، وكبرياؤها القابل للتعديل حسب ظروف السياسة.

* كاتب سعودي



جريدة الوطن في عددها الخميس 15ذو الحجة 1427هـ
الموافق 4 يناير 2007م العدد (2288) السنة السابعة