عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 14-08-2007, 09:53 PM
أبو إيهاب أبو إيهاب غير متصل
مشرف
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2004
المشاركات: 1,234
إفتراضي

حلقة (2)




(3) التحديات الراهنة والمشروع الحضاري لمالك بن نبـي


لكن الأمر الآن بات مختلفاً.
فقد أخفقت مشاريع النهضة كلها؛ التوفيقية التي أرادت أن تعالج مشكلات القرن العشرين بآليات اجتهاد القرون السالفة ومناهج تفكيرها وتأويلها؛ فعانت من غربة في الزمان، والحداثية التي نأت عن جذورها لتطرح فكراً هجيناً، وتبذر في الأرض بذوراً مستعارة لم تلبث أن اجتثت من فوق الأرض، لم تفلح في أن تتجذر فيها أو يقِرَّ لها قرار، فعانت من غربة في المكان..
وقد استحكمت أزمة الحضارة الغربية، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفرد القوة العظمى بقيادة العالم، وعجز الفلسفة الغربية ومنطلقاتها المادية، عن تقديم حلول لأزماتها المتلاحقة؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية، عجزاً تجلى في تردٍّ أخلاقي غير مسبوق ، أفقد الإنسانية كل مكتسباتها التي أحرزتها عبر تجاربها المريرة في حربيها العالميتين خلال القرن العشرين، ولم يبق للإنسان الغربي من الحقوق والضمانات ما يفخر به، مما أظهر هشاشة البنيان الحضاري الغربي ومرتكزاته الفلسفية والأخلاقية.
والتاريخ الإنساني كله يدخل الآن في منعطف حاد يتحول به بسرعة مذهلة من عصر اقتصاد الصناعة إلى عصر اقتصاد المعرفة.
وقد ظل الإنسان يضاعف معلوماته مرات ومرات منذ هبوطه إلى الأرض؛ لم يكن يعلم عنها شيئاً ، ولم يكن فيها شيئاً مذكوراً..
يضاعفها بوتائر متسارعة ، كانت إحداها يوم أن حملت أمتنا راية العلم قبل أكثر من ألف عام . وها هو اليوم أصبح يضاعفها في أقل من عقد في ظل ثورتي المعلومات والاتصالات، في حين تؤكد تقارير التنمية الإنسانية أن نسبة إسهامنا في الانفجار المعرفي الراهن لا تجاوز الصفر إلا قليلاً.
وفي هذا العصر المعرفي،لم يعد تقدم الأمم يقاس بما تملكه من عتاد صناعي؛ مدني أو عسكري، بقدر ما أصبح يقاس بما تملكه من معلومات ومعارف. وقد حلت تكنولوجيا المعلومات محل التكنولوجيا الصناعية، وأخذت العمالة اليدوية فيه تُخْلي مكانها رويداً رويداً لمصلحة العمالة الفكرية، مما وضع الأمم كلها على عتبة سباق واحدة، أمام فرص متكافئة، يفوز فيه من كان الأكثر إعمالاً لعقله، فالعقل هبة الله للإنسان موزعة بين الأمم بالتساوي.

(4) اللحظة التاريخية المواتية لإعادة الإقلاع


هكذا نرى أن قد آن الأوان لفكر مالك التنويري النهضوي الحضاري أن يبلغ مداه، وأن اللحظة التاريخية المواتية لإقلاعه قد حانت، وأن وعي الإنسان في عصر العولمة والانفجار المعرفي، بات مستعداً لتلقفه، وأن التاريخ الإنساني آخذ بالتأهب لاستقباله.
وإننا الآن لنشعر بمسؤولية كبرى إزاء هذه اللحظة التاريخية السانحة، وبالحاجة إلى الخروج بفكر مالك بن نبي من أيدي النخب الثقافية التي تدندن به في أبراجها العاجية، إلى أيدي الناس العاديين في المجتمع. فلا قوَّةَ لكلمة تعيش معزولة في الأبراج، لا تمشي بين الناس في الأسواق. ولن تتحول من إطار النظر إلى نطاق الفعل، إلا إذا ولجت قيمها في ضمائرهم، واستقرت في وجدانهم، لتتجسد في سلوكهم وعملهم، وما لم تفعل ذلك ظلت ظاهرة صوتية تؤوب بمقت الله (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون( [ الصف 61/3 ]. ليس المطلوب الآن الدفاع عن أصالة الإسلام، بل مجرد إعادة فعاليته إليه بتحريك قواه الإنتاجية”(9).
في هذا العصر الذي تتحول فيه البشرية من إيديولوجية القوميات المتناحرة إلى فكرة العالمية المتكاملة، لن تستطيع إنجاز هذا التحول من دون المسلم؛ الذي استقرت وحدة الأصل البشري في ضميره، فلا مكان عنده لتمييز عنصري؛ “كلكم لآدم، وآدم من تراب”. والذي استقرت في وجدانه قيم مطلقة للحق والخير والعدالة والمساواة، فلا مكان عنده للأثرة والكيل بمكيالين.
في هذا المنعطف الحاد الذي يتحول فيه الإنسان من عصر اقتصاد الصناعة إلى عصر اقتصاد المعرفة؛ لا مناص لنا من الدخول في المنعطف، والاضطلاع بدور فاعل فيه.
من دوننا لن يستطيع الإنسان اجتياز المنعطف، والوصول إلى سواء السبيل بأمان، لمتابعة كدحه إلى الحقيقة الكبرى.. إلى الله.
وها نحن نرى العالم بأم أعيننا يتعثر؛ ينظر كالأعور بعين واحدة.. يمشي كالأعرج برجل واحدة.. يخبط خبط عشواء كتائه في البيداء من غير بوصلة ولا دليل.
لقد لحظ مالك بن نبي أواسط القرن المنصرم أزمة الحضارة الغربية، ووصولها إلى الطريق المسدود، وفقدانها مبررات وجودها، مثلما لحظ حاجتها إلى الإسلام لتقويم مسارها. غير أنه رأى أن المسلم المعاصر لا يمكنه أن يرفد الحضارة الغربية بشيء، لأن الماء المنخفض لا يستطيع أن يسقي الأرض العطشى إن هو لم يرتفع إلى أعلى من مستواها. فتلخصت أزمة المسلم عنده في أنها أزمة حضارته، ورسم له دوره المنتظر في الثلث الأخير من القرن العشرين، محذراً من أن رياح الحضارة ستتحول عنه إذا لم يستدرك نقصه طبقاً للقانون القرآني (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم( [محمد 47/38 ].
وها نحن نجد أن العالم الإسلامي لم يستطع أن يلبي طموحات مالك بن نبي، ولم يتحرك قيد أنملة باتجاهها، وأنه الآن يواجه تحديات كبيرة تستهدف وجوده؛ تستخف به إلى درجة التجاهل، وتهزأ منه إلى حد السخرية، وتستتبعه إلى درجة الإلحاق.. تتعامل معه كقاصر لا يحسن تدبير شؤونه.. تمارس عليه وصايةَ قاهر مستبد؛ يروم نهب ثرواته، وأكل أمواله، وطمس هويته، وفصله عن بيئته، وقطع صلته بتاريخه، وتهميش لغته، وتسفيه قيمه، والعبث بمورثاته، وتبليد أحاسيسه، وتجهيله بانتمائه، ومسح ذاكرته، وصهره في بوتقتها، واحتلال أوطانه، وتشريد أبنائه، وزرع أجسام غريبة في جسده، تمهيداً لاستبدال الشرق الأوسط الكبير—حسب المشروع الأميركي- والشراكة المتوسطية- حسب المشروع الأوربي- بالعالم الإسلامي؛ اسمه التاريخي، الذي لا يزال يعتز به.
هل لتحدٍّ بهذا الحجم أن يوقظ العالم الإسلامي من رقاده؛ حسب قانون التحدي عند توينبي، أو قانون لحظة اليأس في القرآن الكريم: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا( [يوسف12/80] ؟!
إن مالك بن نبي يراهن، من قبره، على هذه اللحظة، ويرنو إلى أن لا يدع العالم الإسلامي لحظة التحدي واليأس هذه تفلت منه، مع عميق إيمانه بأن الإسلام هو الملاذ الآمن للبشرية؛ تتخلص به من أوضارها التي تذيقها اليوم أشد العذاب؛ لا فرق عنده أن تهب ريحه من المشرق أو من المغرب، فهو هبة الله للإنسانية كلها مشرقها ومغربها.