عرض مشاركة مفردة
  #27  
قديم 16-09-2005, 03:41 PM
مُقبل مُقبل غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2005
المشاركات: 461
إفتراضي

رحلــــة مع العبـــد الصـــالـــح الخضــــر!!


عند الفجر .. دقّ جرس الساعة المنبهة إعلاناً لقرب الآذان ..
فتحتُ عينيّ المجهدتين .. أغلقتُ المنبّه .. استرخيتُ قليلاً .. ثم نهضت ..
سمعتُ صوتاً على نافذتي .. اقتربتُ بخوف .. آه .. كان المطر ينهمر على سقف المنزل !!
نقراتُه اللطيفة هي التي تطرق نافذي .. انشرحتُ كثيراً .. مرحباً بك أيها المطر ..
اقتربتُ من النافذة كثيراً .. أخذتُ أتأمل المنظر من ورائها..
ارتسمتْ على شفتيّ ابتسامةٌ عريضةٌ .. لقد أتى حتى يغسل همومي وآلامي ..
مرحى .. مرحى ..
تسلّلتُ ببطء نحو الضوء .. أشعلتُه .. أردتُ أن أوقظ الزوج للصلاة .. لم أجده !
لم يأتِ بعد !! هذا أفضل .. هذا أفضل !! ما أسعدني !!

توضأتُ .. صليتُ .. دعوتُ الله أن يُخرجني من هذا المكان ..
أن يُنير لي درب الخير .. لأتبعه ..
بكيتُ كثيراً ضارعة إلى الله تعالى ..
إن الأمطار التي تهطل ما هي إلى قطرةٌ من أدمعي التي تذرف من عينيّ الباكيتين ..
رحماك يا الله .. رحماك .. رحماك ..

عُدتُ مُجدّداً إلى النافذة .. كان المطر قد توقّف عندئذٍ عن الانهمار .. فتحتُها قليلاً ..
لم أعد أرى في الخارج إلى القطرات المتساقطة فوق السقف المنحدر لبناء المنزل..
أو من أغصان الشجر .. ابتسمتُ مجدّداً .. ما أجمل المنظر .. !
ثم .. أغلقتُ النافذة ببطء .. واستدرْتُ لأرفع سجّادتي .. فوجدته
صرخْتُ من شدة الخوف .. كتمتُ أنفاسي فجأة .. غمرتني موجةٌ حارقة
جعلتْ سعادتي تتحول إلى كآبة .. كان وجهه شاحباً .. يبدو عليه الإرهاق .. وثوبه مكمّشاً ..

فرك يديه وهو يجلس .. ثم قال :
- أرغب في الخروج اليوم إلى النزهة في هذا الجوّ الجميل .. أيقظتُ الجميع للاستعداد ..
هيا استعدي أنتِ أيضاً .. نظرتُ بإمعان إلى وجهه لأرى هل هو جادٌ أم هازل .. فسألتُه :
- حقاً ؟!! هل أنت جاد ؟ هل سنتنزهُ في هذا الجوّ الجميل ؟ حقاً ؟!!
اعتدل في جلسته وقال بصوتٍ هادئ :
- نعم .. سنتنزه .. ألا تريدين الخروج معنا ؟ هل تفضلين عدم الذهاب ؟!
صرخْتُ قائلةً في فرحٍ مفاجئٍ أدهشه كثيراً :
لا لا .. لا أريد البقاء .. سأذهب للنزهة .. كم أنا سعيدة .. أحب جوّ المطر .. هيا لنذهب .. هيا ..
- حسناً .. استعدي .. سأنتظركم في السيارة .. لا تتأخروا ..

وخرج .. شعرتُ بشيءٍ من النشوة تسري في عروقي ..
آه .. أخيراً سأخرج إلى الهواء الطلق .. بعيداً عن كل شيء .. ما أسعدني .. ما أسعدني ..
تناولت معطفي الواقي من المطر .. وكذلك معطفه .. أغلقتُ حجرتي ..
قفزتُ السلالم قفزاً وكأنني في واحةٍ غنّاء .. رفرف قلبي من فرط الفرح ..
منذ زمنٍ لم أخرج للطبيعة أحتضن جمالها ..
توقفّنا في مكانٍ رائع الجمال .. كانت الأرض مُوحلةً ومُشبّعةً بالماء ..
وأعواد القمح الممتلئة بعصارة الربيع قد خارتْ وتمددتْ على الأرض في أمواجٍ ممتدةٍ على مَدّ النظر!!
خرجتُ من السيارة .. فتحتُ عينيّ باتّساع .. تلفتُّ حولي بدهشة ..
أرسلتُ ضحكةً كانت مُقيّدة ومكبّلة .. أطلقتُ لها العنان ..
شعرتُ بأني غارقةٌ في محيط نظراتهم المتوهجة !

وفجأةً سمعتُ نفسي أقول له وأنا لا أكاد أشعر بأني بدأت الحديث:
- هل .. هل تسمح لي بالذهاب حول هذا المكان للتنزه .. لن أبتعد ..
قال بصوتٍ لا يخلو من حِدّة:
- ليس الآن .. اجلسي معنا .. لا تنفردي بنفسك .. نريد العودة باكراً ..
فاليوم هو ليلة الخامس عشر من شعبان!!
لم أكن أتوقع مثل هذه الإجابة ..
فأحنيتُ رأسي بأسف وقد اضطرم وجهي خجلاً وحزناً ..
ورُحْتُ أتأمل أطراف أصابعي وأحاول تمالك نفسي ..
ولكن ماذا يعني بليلة الخامس عشر من شعبان؟!!
تناولتُ الإفطار وحدي .. نظروا إليّ وقد أدهشهم ما طرأ عليّ من تغيير ..
لاحْظتُ دهشتهم بقلبٍ مُرتاب .. وأخذتُ أجمع بعض الأعواد من الأرض ..

تردّدت الأم برهة ثم قالت لي:
- يجب أن نعود مبكرين حتى نستعد للذهاب إلى المكان الذي سيتم فيه اجتماع الناس في هذه الليلة ..
كتمتُ أنفاسي .. هذه المرة الثانية التي يؤكّدون فيها أهمية هذه الليلة!!
يا إلهي .. ماذا سيُفاجئني اليوم أيضاً؟!..
أومأتُ برأسي إيجاباً.. ابتسمت بهدوء.
في تلك اللحظة.. اختلستُ النظر إلى الزوج ووالدته ..
راقبتُهما في مُحاولةٍ مني لفهم المعاني التي ينطوي عليها حديثهما.. ولكنني لم أستطع أن أفهم شيئاً !!
سوى أنهم جميعاً صائمون اليوم !! لماذا؟
قلتُ لهم بتوسّل ..
- هل أذهب الآن ؟!! لن أبتعد .. أرجوك ..
أزال عن كتفه بعض القش العالق به ثم قال:
- اذهبي .. ولكن ..
وفتح فمه ليقول شيئاً .. ولكني انصرفتُ بسرعة .. لم أنتظر .. ركضت .. ضحكت .. بكيت ..
اختلطت مشاعري .. رُحتُ أقفز في كل الأرجاء ..

نظرتُ إلى الأرض الجميلة .. لقد تجمع المطر فيها ..
ثم راح ينطلق في جداول صغيرة سريعة ويملأ كل منطقة منخفضة ..
حدّقْتُ في روعة السماء !
إنّ صفحة السماء تصفو من الغيوم التي تمزقت وتباعدتْ كتلُها تاركةً رُقعاً واسعةً من الصفحة الزرقاء المضيئة !
بعضها صافٍ تماماً وبعضها لا يزال محجوباً بغلائل من السحاب الرقيق !!!
أما الهواء فقد سكن على الأرض تماماً وشاعت فيه رائحة العشب المبلل والجذور العارية ..
لا أعرف كم من الوقت مضى .. ساعة .. ساعتان .. أكثر .. !!
لم أشعر .. أوه !! لقد ابتعدتُ كثيراً .. !!
أين أنا ؟! بدأتُ أشعر بالخوف .. إلى أيّ اتجاه أعود !!
رباه .. أين المكان .. ربّاه !!
أين معطفي ؟ أين أضعتُه؟! .. بدأت أبحث .. وأبحث .. آه .. قطرات المطر عاودت في النزول ..

يارب .. أوه .. معطفي هنا .. وجدته .. ارتديتُه لأتقي المطر .. ولكن أين المكان ؟ تناولتُ نظارتي ..
مسحتُ قطرات المطر عنها بمنديلي ثم أعدتها إلى عينيّ .. رُحتُ أنظر إلى الأرض الموحلة حتى أتجنب الخوض في إحدى الحفر المتناثرة حولي .. رفعتُ بصري إلى الأفق .. ازداد انهمار المطر ..
رفعتُ النظارة عن عينيَ ووضعتُها في جيبي ..
رأيتُ عن بُعدٍ رجلاً يقدم تجاهي .. أسدلتُ غطائي .. رحماك يا رب ..
إنه شيخٌ كبير .. يعمل على تنظيف المكان .. دبّ الرعب في أوصالي .. هل سيختطفني ؟!
الويل لي .. تقدّم إليّ وسألني وقد بدتْ على وجهه آثار الزمن على هيئة خطوط عميقة تحيط بوجهه :
- كيف جئت إلى هنا يا ابنتي ؟! المكان خطر .. هيا بسرعة الحقي بعائلتك ..

انحدرت دموعي من شدة الخوف :
- ولكني أضعتُ المكان .. الويل لي .. كيف أصل إليهم ؟ أرجوك ساعدني .. أرجوك ..
- هيا اتبعيني من هذا الطريق ..
جل اهتمامي كان مُنصباً على غضب الزوج وحنقه .. وعدتُه ألا أبتعد !! يا ويلتي ! يا ويلتي !!
وبعد أن قطعنا مسافةً من الطريق .. رفعتُ رأسي .. وإذا بالزوج يهرول قادماً إليّ !! يا ويلتي !!
وقف أمامي كصخرةٍ جامدة .. والشرر يتطاير من عينيه ..
فوجدتُ نفسي أقول بسرعة وكأني أشرح له موقفي الضعيف :
- أرجوك .. أنا .. أنا .. آسفة .. لم أقصد .. سرقني الوقت وأنا أتجول في هذا المكان ! ولكني ..
نظر برفقٍ إلى الشيخ الكبير .. مما أثار دهشتي .. لم يغضب منه .. أشار إليّ أن أتقدمه ..

ففعلتُ .. أقبلتُ على والدته وباقي الأسرة .. وجدتُهم حانقين .. غاضبين !! استدرْتُ لأرى الشيخ الكبير والزوج .. جاء الزوج إلى أهله .. تشاوروا .. تهامسوا .. أكرموا الشيخ إكراماً عظيماً !!!
أغدقوا عليه العطاء .. طلبوا منه الدعاء لهم .. ولي !! تسمّرْتُ في مكاني وأنا أرقبهم !!
ما بالهم لِمَ كل هذه الحفاوة ؟! من الجميع !!!
ذهب الشيخ الكبير في طريقه .. أخذ ينظف ما بقي من أقذار .. وابتعد شيئاً فشيئاً حتى اختفى ..
والجميع يرقبه .. تكاد قلوبهم أن تتبعه .. رأيتُ وجوههم في صورةٍ أخرى ..
اختفت أمارات القسوة والسخط .. نظروا إليّ في قلق .. خاطبتني الأم قائلةً في تودّد :
- هل تعلمين مَنْ يكون هذا ؟!!!
ارتعشْت .. نظرتُ بوجل .. فقلتُ بصوتٍ بالكاد سمعوه :
- مَنْ .. مَنْ يكون ؟!
قال الزوج وهو يضع ساقاً على الأخرى .. ويتنهّد بارتياح :
- إنه الخضر .. العبد الصالح الخضر .. الذي كان مع موسى .. بالتأكيد هو ! يا فلان بن فلان !!

أطبقْتُ شفتيّ فوراً .. انعقد لساني من فرط الاضطراب والارتباك :
- مَنْ ؟ مَنْ ؟ أي خضر ؟ العبد الصالح ؟!! كيف ؟! لابد أنك تمزح !!
الخضر ؟!!! لابد أنك ..
رفع يده وقاطعني :
- هذه الأمور ليست مجالاً للهزل والمزاح ! قلتُ لك أنه الخضر .. ألم تسمعي عنه ؟!!
ارتسم الجزعُ على وجهي فقلت:
- ولكن .. ثم نظرتُ إلى الجميع .. كُلّهم جادّون .. فأكملتْ :
- ولكن .. الخضر عليه السلام قد مات منذ زمنٍ بعيد .. هل تقصد أنه مازال حيّاً يُرزق ؟! لا ..
كانت أخته تتلوى في مقعدها .. لم تصبر فقالت :
- من غير الممكن ألا تكوني على علم بحياته !!! إنّ الخضر صاحب موسى عليه السلام حيٌ يُرزق للآن ..
ويطوف الدنيا كلها ويتشكل في صورٍ مختلفة ..
فقد يأتي في صورة سائلٍ مرة .. وفي صورة مريضٍ .. ينزل من جسده القيح والصديد ..
أو في شكل شيخٍ كبير كهذا الرجل مثلاً .. فبالتأكيد هذا هو الخضر قد زارنا ..!!

ارتعدت .. نظرتُ إلى وجوههم !! تخوفتُ .. تململتُ .. أردت أن أنطق .. لم يتركوا لي مجالاً ..
كانت الأم تراقب تعبيرات وجهي وترى أثر كلماتهم عليّ ..
فقالت بسرعة :
- عندما يأتي الخضر بهذه الأشكال ويزور الناس فيطردونه يكون هذا دليلاً على شقاوتهم و تعاستهم ..
أما إن رحّبوا به وعالجوه وأكرموه .. اختفى بدون أن يترك أثراً له .. وكان ذلك دليل سعادتهم !!!!
فاحذري من طرد أي رجلٍ بهذا الشكل أو تعنيفه .. احذري .. فربما كان هو الخضر جاء لزيارتك !
غصصتُ بريقي .. قلتُ متلعثمة من الصدمة :
- صدقوني .. لقد مات الخضر عليه السلام .. قبل إرساله الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .. إنه لم يُخلّد !!

أرسل الزوج ضحكةً جافة ساخرة وهو يقول:
- الخضر هو الحارس في الأنهار والصحاري ويُعين كل مَنْ يضل عن الطريق إذا ناداه ...
- كيف يكون حارسا وهو ميتٌ شأنه في ذلك شأن الأموات ، لا يسمع نداء من ناداه ، ولا يجيب من دعاه ..
ولا يهدي من ضل عن الطريق إذا استهداه .. !!!
كشّر عن نابيه وقال :
- إذا لم يكن ذلك صحيحا .. فكيف اهتديتِ إلى مكاننا عن طريقه ؟!!
أيتها الحمقاء .. لقد زارك وهداكِ إلى طريقنا ومكاننا .. أفلا تعقلين ؟!
أفلا تتفكرين ؟! عجبا لك أيتها العنيدة !!!
- إنما هو رجلٌ قد سخره الله لي لأستدل طريقكم ليس إلا !! ولا يشترط أن .. تأفف ..

في تلك اللحظة تلاشى جو الألفة والمودة بيني وبينهم .. وخيمتْ مكانه سحب الشك والتربص !!
.. لم يعتقدون ذلك ؟!! هل اعتقادهم خاطئ حقا ؟! نعم .. نعم .. أنا متأكدة .. نعم ..
قطع صوت الزوج حبل أفكاري حين سمعته ينادي من السيارة :
- هيا .. لا نريد التأخر .. أمامنا ليلة حافلة .. فلنستعد للعودة .. المطر يتساقط بغزارة ..
ركبنا جميعا .. ابتسمتُ في قرارة نفسي .. ازداد إحساسي بالبهجة ..
كم كنتُ أهفو إلى مثل هذا اليوم الذي أقضيه بمفردي تماما ..
بلا خوفٍ من زوجي أو أهله .. وبلا أية هموم أو متاعب ..
ولكن .. هذه الليلة .. ماذا عساها تكون ؟! سترك ورحمتك يا رب ..



وللقصة تتمة بإذن الله
الرد مع إقتباس