عرض مشاركة مفردة
  #57  
قديم 25-04-2006, 02:48 AM
أبو إيهاب أبو إيهاب غير متصل
مشرف
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2004
المشاركات: 1,234
إفتراضي

مقتطفات من بحث عن التكفير


ولا يحل لمسلم أن يخرج مسلما من الإسلام بسبب معصية ارتكبها ولو كانت كبيرة من الكبائر، فإن الكبائر تخدش الإسلام، ولكنها لا تزيله بالكلية، بدليل أن القرآن أثبت أخوّة القاتل مع أولياء دم المقتول، فبعد أن قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} قال بعدها: {فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (البقرة: 178).
وكذلك أثبت الإيمان للمقتتلين من المسلمين فقال:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} (الحجرات: 9). ثم قال: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} (الحجرات: 10).
وكذلك فرقت الشريعة بين عقوبات الزاني والقاذف والسارق وقاطع الطريق وشارب الخمر وعقوبة المرتد، ولو كانت كل كبيرة كفرا لعوقب الجميع عقوبة الردة.
وهذا يوجب على أهل العلم أن يتأولوا الأحاديث التي اعتبرت قتال المسلمين بعضهم لبعض كفرا، أو عملا من أعمال الكفار "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"([10])، ويجب ربط النصوص بعضها ببعض، ورد متشابهها إلى محكمها، وفروعها إلى أصولها.
وكما لا يجوز إخراج المسلم من إسلامه بسبب معصية لا يجوز إخراجه منه بسبب خطأ أخطأ فيه؛ لأن كل عَالِم معرَّض للخطأ، وهو مرفوع عن هذه الأمة، فقد وضع الله عنها الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس عند ابن ماجة، وصححه ابن حبان والحاكم.
وأصحاب المذاهب المعروفة في العالم الإسلامي التي تتبعها جماهير من المسلمين كلهم داخلون في مفهوم الإسلام الذي ذكرناه، سواء كانت هذه المذاهب فقهية، تعنى بالأحكام العملية عند المذاهب السنية الأربعة المعروفة، ومعها المذهب الظاهري، أم كانت مذاهب عقدية تعنى بأصول الدين؛ أي بالجانب العقائدي منه، مثل المذهب الأشعري (المنسوب إلى الإمام أبي حسن الأشعري ت 324 هـ) أو المذهب الماتريدي (نسبة إلى الإمام أبي منصور الماتريدي ت 333هـ)، أم كانت تجمع بين الجانب العقدي والجانب العملي شأن المذهب الجعفري (نسبة إلى الإمام جعفر الصادق ت 148هـ)، والمذهب الزيدي (نسبة إلى الإمام زيد بن علي ت12هـ)، والمذهب الإباضي (نسبة إلى عبد الله ابن إباض التميمي ت 86 هـ).
فهذه المذاهب كلها تؤمن بأركان الإيمان التي جاء بها القرآن (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، والإيمان بالقدر الذي جاءت به السنة داخلٌ ضمن الإيمان بالله تعالى. وكلها تؤمن بأركان الإسلام العملية: الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
وكلها تؤمن بمحرمات الإسلام القطعية من القتل والانتحار والزنا وعمل قوم لوط، وشرب الخمر، والسرقة والغصب، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات المؤمنات، وغيرها من الموبقات التي جاء النهي عنها والوعيد عليها في محكمات القرآن والسنة، وأجمعت عليها الأمة.
وكلها تؤمن بالأحكام القطعية في شريعة الإسلام، في العبادات والمعاملات، والأنكحة والحدود والقصاص، والسياسة الشرعية والمالية وغيرها.
وكلهم تؤمن بالاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة، وهو اجتهاد له أصوله وضوابطه التي ترجع جميعا إلى أصول الشرع، وإن اختلفت طرائق الاجتهاد بين مذهب وآخر، فمنهم من هو أميل إلى النص، ومنهم من هو أميل إلى الرأي، ومنهم من يجنح إلى الظواهر، ومنهم من يهتم أكثر بالمقاصد. فمن أصاب منهم الحق في اجتهاده فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد؛ لأنه بذل جهده وتحرى الحق فلم يحرم من الأجر، وقد صح بذلك الحديث المتفق عليه. وسواء كان الخطأ في الأصول أم في الفروع، في المسائل العلمية أم في المسائل العملية، كما بين ذلك المحققون من العلماء.
وتأثيم المجتهد في المسائل العلمية الاعتقادية -ناهيك بتكفيره!!- مناف لما قرره القرآن في خواتيم سورة البقرة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 286).
وجاء في الصحيح أن الله تعالى قد استجاب هذا الدعاء، فلو عاقب الله بعد ذلك المجتهد الذي استفرغ وسعه ولكنه أخطأ الوصول إلى الحق لكان معاقبا له على الخطأ وهو مرفوع، ومكلِّفا له ما ليس في وسعه، ومحمِّلاً له ما لا طاقة له به.
وقال الإمام ابن تيمية: "فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية العلمية، أو في المسائل الفروعية العملية...هذا الذي عليه أصحاب النبي وجماهير أئمة الإسلام. وأما تفريق المسائل إلى أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها فهذا التفريق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا عن أئمة الإسلام".
قال الإمام ابن الوزير: "قد تكاثرت الآيات في العفو عن الخطأ، والظاهر أن أهل التأويل أخطئوا، ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم؛ لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في خطاب أهل الإسلام خاصة:{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}(الأحزاب: 5)، وقال تعالى:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}(البقرة: 286)، وصح في تفسيرها أن الله تعالى قال: قد فعلت في حديثين صحيحين أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن أبي هريرة، وقال تعالى: ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}(آل عمران: 135)، فقد ذمهم بعلمهم، وقال في قتل المؤمن مع التغليظ العظيم فيه:{ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم}(النساء: 93)، فقيد الوعيد فيه بالتعمد، وقال في الصيد: {ومن قتله منكم متعمدا}(المائدة: 95)، وجاءت الأحاديث الكثيرة بهذا المعنى؛ كحديث سعد وأبي ذر وأبي بكرة -متفق على صحتها- فيمن ادعى أبًا غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فشرط العلم في الوعيد.
ومن أوضحها حجة: حديث الذي أوصى -لإسرافه- أن يحرق ثم يذرى في يوم شديد الرياح نصفه في البر ونصفه في البحر، حتى لا يقدر الله عليه، ثم يعذبه! ثم أدركته الرحمة لخوفه، وهو حديث متفق على صحته عن جماعة من الصحابة، منهم حذيفة وأبو سعيد وأبو هريرة، بل رواته منهم قد بلغوا عدد التواتر، كما في جامع الأصول، ومجمع الزوائد. وفي حديث حذيفة أنه كان نباشا.
وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد، ولذلك خاف العقاب، وأما جهله بقدرة الله تعالى ما ظنه محالا فلا يكون كفرا إلا لو علم أن الأنبياء جاءوا بذلك، وأنه ممكن مقدور، ثم كذبهم أو أحدا منهم؛ لقوله تعالى:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء: 15). وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل.
ويعضد ما تقدم بأحاديث: "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء"، وهي ثلاثة أحاديث صحاح.
ولهذا قال جماعة من علماء الإسلام: إنه لا يكفر المسلم بما يبدر منه من ألفاظ الكفر، إلا أن يعلم المتلفظ بها أنها كفر، قال صاحب المحيط: وهو قول أبي علي الجبائي ومحمد "ابن الحسن" والشافعي([11]).