عرض مشاركة مفردة
  #12  
قديم 06-07-2005, 09:32 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]
والتشريع الإسلامي لا يسير على الطريقة التي سار عليها التشريع الغربي، فهو لا يجعل الحرية موضع بحث مطلقاً، لا في إثباتها ولا في نفيها، وإنّما يجعل موضع البحث الأساسي أفعال الإنسان. فالتشريع إنّما جاء لمعالجة أفعال الإنسان، ولم يأت ليقرر الحرية أو ينفيها. فهو لا ينظر إلى الإنسان من حيث قيامه بأفعاله على أساس الحرية أو عدمها، وإنّما ينظر على أساس أن هذه أفعال تصدر من الإنسان فما هو حكمها؟ ولذلك جاء إلى أفعال فأوجب القيام بها، ورتب عقاباً من الدولة على من لا يقوم بهذا الفرض. وجاء إلى أفعال فحرم القيام بها ورتب عقاباً من الدولة على من يقوم بهذه الأفعال، أي على من يأتي هذا الحرام، وأوعد بعقاب يوم القيامة لكل من يترك فرضاً أو يفعل حراماً. وجاء إلى أفعال فطلب القيام بها ولكنه لم يرتب أي عقاب من الدولة على تركها ولا جعل يوم القيامة عذاباً على تركها، وهو ما يقال له: المندوبات. وجاء إلى أفعال فطلب تركها ولكنه لم يرتب أي عقاب من الدولة على فعلها. وجاء إلى أفعال فخيّر في فِعلها أو تركها، أي أباحها.

فالقضية إذن في نظرة التشريع الإسلامي لأفعال الإنسان هي أنه عمد إلى أفعال من أفعال الإنسان فأوجب فعل بعضها وحرم فعل البعض الآخر، وأنه عمد إلى أفعال من أفعال الإنسان فرغّب في فعل بعضها مجرد ترغيب من غير أن يرتب أي عقاب على عدم الاستجابة لهذا الترغيب، أي على تركها. ونفّر مِن فِعل البعض الآخر مجرد تنفير من غير أن يرتب أي عقاب على عدم الاستجابة لهذا التنفير، أي على فِعلها. وأنه عمد إلى أفعال من أفعال الإنسان فأباح له فعلها وتركها. هذا هو موقف التشريع الإسلامي من الإنسان. وعلى ذلك فالحرية ليست ذات موضوع في بحث التشريع الإسلامي مطلقاً، لا نفياً ولا إثباتاً.

إلاّ أن تقسيم أحكام فعل الإنسان إلى فرض وحرام ومندوب ومكروه ومباح لا يعني أن التشريع الإسلامي حصر أفعالاً فأوجبها بعينها، وحصر أفعالاً أخرى فحرّمها بعينها، وحصر أفعالاً ثالثة معيَّنة فرغّب في فِعلها، وحصر أفعالاً رابعة معيّنة فنفّر مِن فِعلها، ثم أطلق باقي الأفعال فجعلها مباحة.

بل التشريع الإسلامي أوامر ونواهٍ من الله تعالى جاءت بمعانٍ عامة محددة الوصف كالبيع مثلاً غير محدود الكم يعني أي بيع. فهذه الأوامر والنواهي تفيد الطلب أو التخيير. والطلب الذي تفيده إما طلب فعل طلباً جازماً، أو طلب فعل طلباً غير جازم، وإما طلب ترك طلباً جازماً، أو طلب ترك طلباً غير جازم، فكان هذا الطلب أو التخيير هو حكم أفعال الإنسان. فالحكم هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال الإنسان، ونوع هذا الحكم من حيث لزوم القيام بالعمل أو عدم لزومه، أو لزوم ترك الفعل أو عدم لزومه، أو إباحة القيام به أو تركه، إنّما هو مستفاد من هذا الخطاب، أي مستفاد من الطلب أو التخيير، أو بعبارة أخرى مستفاد من الأوامر والنواهي.

وعليه فإن المخاطَب بالحكم هو الإنسان، ولكن محل الخطاب هو أفعال الإنسان. وهذا الحكم الذي خوطب به ليس إعطاءه الحرية يفعل ما يراه، ولا هو تقييد هذه الحرية، بل هو علاج كل مشكلة تقع له في هذه الحياة، أي هو بيان حكم كل فعل يصدر من الإنسان بوصفه إنساناً.

وعلى هذا الأساس جاءت نصوص الأحكام في القرآن الكريم والحديث الشريف، فآيات الأحكام كلها والأحاديث التي تضمنت أحكاماً جاءت بأوامر ونواهٍ من الله تعالى أوحى بها إلى نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إما لفظاً ومعنى، وهو القرآن، وإما معنى والرسول عبّر عنها بلفظ من عنده، وهو الحديث، فكانت هذه الأوامر والنواهي هي علاج كل مشكلة تقع للإنسان في هذه الحياة الدنيا، أي فيها بيان كل حكم لأي فعل يصدر من الإنسان بوصفه إنساناً سواء أكان حكم إباحة أم حكم تحريم، فالإباحة حكم يحتاج إلى دليل كالتحريم سواء بسواء.

والناظر في هذه الأوامر والنواهي أي في خطاب الشارع، يجد أنه متعلق بفعل الإنسان من حيث هو إنسان، ومتعلق بأفعال موصوفة وصفاً عاماً، أي جاء بمعانٍ عامة تنطبق على كل ما يندرج تحتها. فالطلب والتخيير حين أعطى حلول المشاكل أي أحكام الوقائع، جعل هذا الحكم خطاً عريضاً أي معنى عاماً. فهو قد أعطى حكم فعل ولكنه أعطى حكم جنس الفعل أو نوعه بوصف عام، لا حكم فعل واحد أو أفعال محدودة العدد، ولذلك كان منطبقاً على كل فعل من جنسه أو من نوعه، وعلى كل ما يدل عليه الوصف العام وما يندرج تحت المعنى العام إن كان الوصف غير معلَّل، وعلى كل ما ينطبق عليه الوصف العام أو يندرج تحت المعنى العام، مع كل ما تنطبق عليه علّة الحكم للوصف إن كان الوصف معلَّلاً. فهو يقول هذا حكم البيع أو هذا حكم خيار البيع أو هذا حكم الصرف، فيقول: (وأحل الله البيع)، ويقول: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ويقول: (بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد)، ويقول: (والذهب بالذهب والفضة بالفضة يداً بيد عيناً بعين مِثلاً بمِثل فما زاد فهو ربى)، وكذلك يقول: هذا حكم تقسيم الفيء، وهذه علامة على حكم تداول المال بين الأغنياء وحدهم. وهذا حكم مراعي الماشية، وهذه علامة حكم ما هو من مرافق الجماعة. أو هذا حكم إقطاع الدولة رعاياها مما ليس ملكاً لأحد، وهذه علامة حكم المعادن. فيقول في تقسيم الفيء على المهاجرين دون الأنصار: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم)، ويقول: (المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، ويقول، أي النص: (عن عمر بن قيس التأربي قال: استقطعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم معدن الملح فأقطعنيه. فقيل: يا رسول الله إنه بمنزلة الماء العَدّ –يعني أنه لا ينقطع- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا، إذن). ولهذا فهو أي النص، ينطبق على أفعال الإنسان المتجددة والمتعددة مهما تنوعت واختلفت.

ومن هنا يأتي الاستنباط من هذه المعاني العامة لكل مشكلة من المشاكل المتجددة والمتعددة للإنسان، ولهذا لا توجد واقعة حدثت إلاّ ولها محل حكم، ولا حادثة تحدث إلاّ ولها أيضاً محل حكم، ولا مشكلة يمكن واقعياً لا فرضياً أن تقع إلاّ ولها كذلك محل حكم. وقد أعطى الشارع النص على هذا الوجه وترك للعقل البشري أن يجالد ويناضل ويبذل أقصى الجهد لاستنباط أحكام المسائل المتجددة والمتعددة من هذه النصوص، وجعل الاجتهاد ليس مباحاً فحسب بل جعله فرض كفاية لا يصح أن يخلو عصر منه، وإذا خلا عصر من مجتهدين فقد أثِم كل المسلمين.
هذا هو واقع التشريع الإسلامي وذاك هو واقع التشريع الغربي وهذا هو الفرق الشاسع بين التشريعين، بين تشريع مبني على أساس ظني باطل ويعطي معالجات فاسدة، وبين تشريع مبني على أساس قطعي حق ويعطي التشريعات الصحيحة بل التشريعات التي تعتبر وحدها هي الصحيحة. ولكن الواقع الذي حدث هو أن التشريع الغربي تحدى التشريع الإسلامي تحدياً صارخاً، وكان من نتيجة هذا التحدي أن هُزم المسلمون، ثم كان من نتيجة هذه الهزيمة أن دُمّروا سياسياً تدميراً تاماً ومُزّقوا شر مُمزَّق. وإن المرء ليأخذه العجب والدهشة حين يدرك بطلان التشريع الغربي وعجزه عن مواجهة مشاكل الإنسان، ثم يدرك صحة التشريع الإسلامي وقدرته على مواجهة كل مشكلة تعرض لإنسان وحلها الحل الصحيح، ويشاهِد هزيمة المسلمين أصحاب المبدأ الحق أمام تحدي المبدأ الباطل.