عرض مشاركة مفردة
  #17  
قديم 05-09-2005, 01:26 PM
muslima04 muslima04 غير متصل
عضو مشارك
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2003
المشاركات: 872
إفتراضي

الثاني‏:‏ ان شَبابة روى عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان قال‏:‏ قلنا لانس بن مالك‏:‏ ان قوماً يزعمُون ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنُت بالفجر، قال‏:‏ كذبوا، وانما قَنتَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شهراً واحداً يدعو على حيٍّ من احياء العرب، وقيس بن الربيع وان كان يحيى بن معين ضعفه، فقد وثقه غيره، وليس بدون ابي جعفر الرازي، فكيف يكون ابو جعفر حجة في قوله‏:‏ لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا وقيس ليس بحجة في هذا الحديث، وهو اوثقُ منه او مثلُه، والذين ضعفوا ابا جعفر اكثرُ من الذين ضعفوا قيساً، فانما يعرف تضعيفُ قيس عن يحيى، وذكر سببَ تضعيفه، فقال احمد بن سعيد بن ابي مريم‏:‏ سالت يحيى عن قيس بن الربيع، فقال‏:‏ ضعيف لا يُكتب حديثه، كان يحدِّث بالحديث عن عبيدة،وهو عنده عن منصور، ومثل هذا لا يوجب رد حديث الراوي، لان غاية ذلك ان يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور، ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين‏؟‏
الثالث‏:‏ ان انساً اخبر انهم لم يكونوا يقنُتون، وان بدء القنوت هو قنوتُ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على رِعل وذَكوان، ففي ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عبد العزيز بن صهيب،عن انس قال‏:‏ بعثَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة، يقال لهم‏:‏ القُرَّاءُ، فعرض لهم حَيَّانِ من بني سليم رِعل وذَكوان عند بئر يقال له‏:‏ بئر مَعونة، فقال القوم‏:‏ واللّه ما اياكم اردنا، وانما نحن مجتازون في حاجة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم، فدعا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عليهم شهراً في صلاة الغداة، فذلك بدءُ القنوت، وما كنا نقنُت‏.‏
فهذا يدل على انه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائماً، وقول انس‏:‏ فذلك بدءُ القنوتُ، مع قوله‏:‏ قنت شهراً، ثم تركه، دليل على انه اراد بما اثبته من القنوت قنوتَ النوازل، وهو الذي وقَّته بشهر، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهراً، كما في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن يحيى بن ابي كثير، عن ابي سلمة، عن ابي هريرة ان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة العَتَمَة شهراً يقول في قنوته‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ اَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَام، اللَّهُمَّ اَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ اَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ اَنْجِ المُسْتَضعفِينَ مِنْ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْاَتَكَ عَلَى مُضرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِني يُوسُف‏)‏‏.‏ قال ابو هريرة‏:‏ واصبح ذاتَ يوم فلم يدعُ لهم، فذكرتُ ذلك له، فقال‏:‏ او ما تراهم قد قَدِمُوا، فقنوتُه في الفجر كان هكذا سواء لاجل امر عارض ونازلة، ولذلك وقَّته انس بشهر‏.‏
وقد روي عن ابي هريرة انه قنت لهم ايضاً في الفجر شهرا، وكلاهما صحيح، وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس‏:‏ قنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، ورواه ابو داود وغيره، وهو حديث صحيح‏.‏
وقد ذكر الطبراني في ‏(‏معجمه‏)‏ من حديث محمد بن انس‏:‏ حدثنا مُطرِّف بن طريف، عن ابي الجهم، عن البراء بن عازب، ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يُصليِّ صلاةً مكتوبة الا قنت فيها‏.‏
قال الطبراني‏:‏ لم يروه عن مطرِّف الا محمد بن انس‏.‏ انتهى‏.‏
وهذا الاِسناد وان كان لا تقوم به حُجة، فالحديث صحيح من جهة المعنى، لان القنوت هو الدعاء، ومعلوم ان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يُصل مكتوبة الا دعا فيها، كما تقدم، وهذا هو الذي اراده انس في حديث ابي جعفر الرازي ان صح انه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك، وان دعاءه استمر في الفجر الى ان فارق الدنيا‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ ان طرق احاديث انس تُبين المراد، ويصدق بعضها بعضاً، ولا تتناقض‏.‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عاصم الاحول قال‏:‏ سالت انس بن مالك عن القنوت في الصلاة‏؟‏ فقال‏:‏ قد كان القنوت، فقلت‏:‏ كان قبلَ الركوع او بعده‏؟‏ قال‏:‏ قبله‏؟‏ قلتُ‏:‏ وان فلاناً اخبرني عنك انك قلت‏:‏ قنت بعدَه‏.‏ قال‏:‏ كذب، انما قلت‏:‏ قنتَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً‏.‏ وقد ظن طائفة ان هذا الحديث معلول تفرد به عاصم، وسائر الرواة‏.‏ عن انس خالفوه، فقالوا‏:‏ عاصم ثقة جداً، غيرَ انه خالف اصحابَ انس موضع القنوتين، والحافظ قد يهم، والجواد قد يعثُر، وحكوا عن الاِمام احمد تعليله، فقال الاثرم‏:‏ قلتُ لابي عبد الله - يعني احمد بن حنبل -‏:‏ ايقول احد في حديث انس‏:‏ ان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غيرَ عاصم الاحول‏؟‏ فقال‏:‏ ما علمتُ احداً يقوله غيرُه‏.‏ قال ابو عبد اللّه‏:‏ خالفهم عاصم كُلَّهم، هشام عن قتادة عن انس، والتيمي، عن ابي مجلز، عن انس، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قنت بعد الركوع، وايوبُ عن محمد بن سيرين قال‏:‏ سالت انسا‏.‏ وحنظلة السدوسي عن انس اربعة وجوه‏.‏ واما عاصم فقال‏:‏ قلت له‏؟‏ فقال‏:‏ كذبوا، انما قنتَ بعد الركوع شهراً‏.‏ قيل له‏:‏ من ذكره عن عاصم‏؟‏ قال‏:‏ ابو معاوية وغيره، قيل لابي عبد اللّه‏:‏ وسائر الاحاديث اليس انما هي الركوع‏؟‏ فقال‏:‏ بلى كلها عن خُفاف بن ايماء بنِ رَحْضَة، وابي هريرة‏.‏
قلت لابي عبد الله‏:‏ فلم ترخص اذاً في القنوت قبل الركوع، وانما صح الحديثُ بعد الركوع‏؟‏ فقال‏:‏ القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يُختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع، فلا باس، لفعل اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، واختلافهم، فاما في الفجر، فبعد الركوع‏.‏
فيقال‏:‏ من العجب تعليلُ هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته، ورواه ائمة ثقات اثبات حفاظ، والاحتجاج بمثل حديث ابي جعفر الرازي، وقيس بن الربيع، وعمرو بن ايوب، وعمرو بن عبيد، ودينار، وجابر الجعفي، وقل من تحمَّل مذهباً، وانتصر له في كل شيء الا اضطر الى هذا المسلك‏.‏
فنقول وبالله التوفيق‏:‏ احاديث انس كلها صحاح، يُصدِّق بعضُها بعضاً، ولا تتناقضُ، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غيرُ القنوت الذي ذكره بعده، والذي وقته غير الذي اطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو اطالةُ القيام للقراءة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اَفْضلُ الصَّلاَةِ طُولُ القنُوتِ‏)‏ والذي ذكره بعده، هو اطالةُ القيام للدعاء، فعله شهراً يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمرَّ يُطيل هذا الركنَ للدعاء والثناء، الى ان فارق الدنيا، كما في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن ثابت، عن انس قال‏:‏ اني لا ازال اُصلي بكم كما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بنا، قال‏:‏ وكان انس يصنع شيئاً لا اراكم تصنعونه، كان اذا رفع راسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائلُ‏:‏ قد نسي، واذا رفع راسه من السجدة يمكُث، حتى يقول القائلُ‏:‏ قد نسي‏.‏ فهذا هو القنوتُ الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا‏.‏
ومعلوم انه لم يكن يسكُت في مثل هذا الوقوف الطويل، بلَ كان يثني على ربه، ويُمجِّده، ويدعوه، وهذا غيرُ القنوتِ الموقَّت بشهر، فان ذلك دعاء على رِعل وذَكوان وعُصيَّة وبني لِحيان، ودُعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة‏.‏ واما تخصيصُ هذا بالفجر، فبحسب سؤال السائل، فانما ساله عن قنوت الفجر، فاجابه عما ساله عنه‏.‏ وايضاً، فانه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، ويقرا فيها بالستين الى المائة، وكان كما قال البراء بن عازب‏:‏ ركُوعُه، واعتداله، وسجودُه، وقيامُه متقارباً‏.‏ وكان يظهرُ مِن تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك‏.‏ ومعلوم انه كان يدعو ربه، ويثني عليه، ويمجده في هذا الاعتدال، كما تقدمت الاحاديث بذلك، وهذا قنوتٌ منه لا ريبَ، فنحن لا نشكُّ ولا نرتابُ انه يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا‏.‏
ولما صار القنوتُ في لِسان الفقهاء واكثرِ الناس، هو هذا الدعاء المعروف‏:‏ اللهم اهدني فيمن هديت‏.‏‏.‏‏.‏ الى اخره، وسمعوا انه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاءُ الراشدون وغيرهم من الصحابة، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشا مَن لا يعرف غيرَ ذلك، فلم يشك ان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم واصحابَه كانوا مداومين عليه كلَّ غداة، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهورُ العلماء، وقالوا‏:‏ لم يكن هذا من فِعله الراتب، بل ولا يثبُت عنه انه فعله‏.‏
وغاية ما رُوي عنه في هذا القنوت، انه علمه للحسن بن علي، كما في ‏(‏المسند‏)‏ و ‏(‏السنن‏)‏ الاربع عنه قال‏:‏ علَّمني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ اقولهن في قُنوت الوترِ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لِي فِيمَا اَعْطيْتَ، وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَانَكَ تَقْضِي، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، اِنَّه لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ‏)‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن، ولا نعرف في القنوت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً احسنَ من هذا، وزاد البيهقي بعد ‏(‏وَلاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ‏)‏، ‏(‏وَلاَ يَعِزُّ مَن عَادَيْتَ‏)‏‏.‏
وممّا يدل على ان مراد انس بالقنوت بعد الركوع هو القيامُ للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب‏:‏ حدثنا ابو هلال، حدثنا حنظلة امامُ مسجد قتادة، قلت‏:‏ هو السدوسي، قال‏:‏ اختلفت انا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال قتادة‏:‏ قبل الركوع، وقلت، انا‏:‏ بعد الركوع، فاتينا انس بن مالك، فذكرنا له ذلك، فقال‏:‏ اتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فكبر، وركع، ورفع راسه، ثم سجد، ثم قام في الثانية، فكبر، وركع، ثم رفع راسه، فقام ساعة ثم وقع ساجداً‏.‏ وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء، وهو يُبين مراد انس بالقنوت، فانه ذكره دليلاً لمن قال‏:‏ انه قنت بعد الركوع، فهذا القيام والتطويل هو كان مرادَ انس، فاتفقت احاديثُه كلُها، وباللّه التوفيق‏.‏ واما المروي عن الصحابة، فنوعان‏:‏
احدُهما‏:‏ قنوت عند النوازل، كقنوتِ الصديق رضي اللّه عنه في محاربه الصحابة لمسيلِمة، وعِند محاربة اهل الكتاب، وكذلك قنوتُ عمر، وقنوت علي عند محاربته لمعاوية واهل الشام‏.‏
الثاني‏:‏ مطلَق، مرادُ من حكاه عنهم به تطويلُ هذا الركن للدعاء والثناء، واللّه اعلم‏.