عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 12-06-2000, 10:59 AM
صلاح الدين صلاح الدين غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: May 2000
المشاركات: 805
Post

بادئ ذي بدء، لابد من التذكير بأن استنباط الأحكام الشرعية في الإسلام يحتاج إلى (أصول الفقه) و(القواعد الفقهية) لفهم النص، ولا يقتصر على إيراد النص الصحيح، لأن الأمر والنهي الإلهي بينه فعل النبي؛ صلى الله عليه وسلم؛ وأوامره ونواهيه وتقريراته، وكان؛ عليه الصلاة والسلام؛ يفتي في المسألة الواحدة - أحيناً - بأكثر من قول بما يقتضيه الحال، مع ملاحظة التدرج في التشريع، وهو أحد أهم مميزات الفقه الإسلامي. فلا غرو إذن أن ترد عدة أحاديث صحيحة في مسألة واحدة بأكثر من حكم. ولذلك كان من المهم معرفة: سبب ورود الحديث، ومعرفة المتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص من الأحاديث، تماماً كمعرفة ذلك في الآيات الشريفة.

ولا يخفى أن استنباط الحكم، والتمييز بين النصوص هو أحد أهم ميزات المجتهد عن المقلد.

ومن جملة ما ورد في المسألة نعرف أن نكاح المتعة أو النكاح المؤقت، كان حلاً في أوقات معينة أباحها فيه الشارع الكريم، تماماً كالخمر.
وهو عقد عرفه أهل الجاهلية، وتدرج الإسلام في تحريمه، ونسخه القرآن الموحى به، ونهى عنه النبي؛ صلى الله عليه وسلم؛ في حياته، كما نهى - أي حرم - أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، والحديث مروي عن الإمام علي بن أبي طالب؛ رضي الله عنه. (انظر: عمدة الأحكام لابن دقيق العيد، ص4/36). وما يروى عن الخليفة الشهيد عمر بن الخطاب؛ رضي الله عنه؛ من تحريم المتعة، إنما جاء في معرض تذكير عمر بالتحريم، ومتابعة المخالفين، لا أنه حرمه ابتداءاً من عند نفسه، مبتدعاً، وحاشا له أن يبتدع ولا يتبع.

ونكاح المتعة كان في صدر الإسلام، وقرأ ابن عباس وأُبيّ وابن جبير: {فما استمتعتم به منهن - إلى أجل مسمى - فآتوهن أجورهن}، ثم نهى عنها النبي؛ صلى الله عليه وسلم.
وقال سعيد بن المسيب: (نسختها آية الميراث إذ كانت المتعة لا ميراث فيها). وقالت عائشة والقاسم بن محمد: (تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك في قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}، وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين).
وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب؛ كرم الله وجهه؛ قال: (نهى رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم؛ عن المتعة، قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نُسخت).
وروى عن علي؛ رضي الله عنه؛ أنه قال: (نسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة، ونسخت الأضحية كل ذبح).
وعن ابن مسعود قال: (المتعة منسوخة، نسخها الطلاق والعدة والميراث).
وروى عطاء عن ابن عباس؛ رضي الله عنهما؛ قال: (ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى، رحم بها عباده، ولولا نهى عمر عنها ما زنى إلا شقي).
واختلف العلماء كم مرة أبيحت ونسخت، ففي صحيح مسلم عن عبدالله: قال: (كنا نغزو مع رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم؛ ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل.
قال أبو حاتم البُستي في صحيحه: قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا نستخصي؟ دليل على أن المتعة كانت محظورة قبل أن أبيح لهم الإستمتاع، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم عن هذا معنى، ثم رخص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل، ثم نهى عنها عام خيبر، ثم أذن فيها عام الفتح، ثم حرمها بعد ثلاث إلى يوم القيامة.
وقال ابن العربي: (وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت في غزوة أوطاس، ثم حرمت بعد ذلك، واستقر الأمر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة، لأن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك).
وقال غيره ممن جمع طرق الأحاديث فيها: (إنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات، فروى ابن أبي عمرة أنها كانت في صدر الإسلام، وروى سلمة بن الأكوع أنها كانت عام أوطاس، ومن رواية علي تحريمها يوم خيبر، ومن رواية الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح. قلت: وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم وفي غيره عن علي؛ كرم الله وجهه؛ نهيه عنها في غزوة تبوك، رواه إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبدالله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي، ولم يتابع إسحاق بن راشد على هذه الرواية عن ابن شهاب، قاله أبو عمر؛ رحمه الله؛ وفي مصنف أبي داؤد من حديث الربيع بن سبرة النهي عنها في حجة الوداع، وذهب أبو داؤد إلى أن هذا أصح ما روى في ذلك، وقال عمرو عن الحسن: ما أحلت المتعة قط إلا ثلاثاً: في عمرة القضاء، ما حلت قبلها ولا بعدها. وروى هذا عن سبرة أيضا. فهذه سبعة مواطن أحلت فيها المتعة وحرمت.
قال أبو جعفر الطحاوي: (كل هؤلاء الذين رووا عن النبي؛ صلى الله عليه وسلم إطلاقها؛ أخبروا أنها كانت في سفر، وأن النهي لحقها في ذلك السفر بعد ذلك فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت في حضر).
وكذلك روى عن ابن مسعود.
فأما حديث سبرة الذي فيه إباحة النبي؛ صلى الله عليه وسلم؛ لها في حجة الوداع فخارج عن معانيها كلها، وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلا في رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة، وقد رواه إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فذكر أن ذلك كان في فتح مكة، وأنهم شكوا إليه العزبة فرخص لهم فيها.
(انظر تفصيل ذلك في: تفسير القرطبي، ص5/130-131)

والمنسوخ - كما يعرف طلاب العلم - لا يعمل به، ويذكر في أبواب الفقه عناية من المسلمين بتاريخ وتدرج التشريع.

ومن عقد في الإسلام متعة، يصح عقده ويبطل شرطه، فيتحول تلقائياً إلى نكاح دائم، إذا استوفى الشروط والأركان المطلوبة لصحة العقود.
ومن عقد متعة أو اشترط التوقيت، لا يقام عليه حد الزنى بإجماع من يعتد به من أهل العلم.

أما تطبيقات نكاح المتعة المعاصرة، فتدعو القائلين باستمرار حليته من أهل الفرق إلى إعادة النظر في قولهم لما يترتب عليها من المفاسد النفسية والاجتماعية ولما في تصرفات البعض من الأذى والامتهان للمرأة التي تقبل بالزواج المؤقت وكأنها - والعياذ بالله - متكسبة به، أو تتخذه متنفساً لمشاعرها الجنسية، مما يهبط بها اجتماعياً إلى رتبة لا يرضاها المعممون المفتون بحليته لبناتهم وأخواتهم، ومما يحول بين بيوتات العلم والسياسة والتجارة (في المجتمع الشيعي) وممارسة هذا النوع من العقود الذي يصبح مقصوراً على شرائح من المجتمع منبوذة داخل مجتمعات الإباحة نفسها.

إن حكمة التشريع الشريف للنكاح الدائم أبلغ وأوضح من أن تحتاج إلى مزيد شرح. وإن المفاسد المترتبة على صور أنكحة الجاهلية التي حرمها الإسلام دفعة واحدة أو بالتدرج لا تخفى كذلك على عاقل.
ونسأله تعالى الهداية.

على الأخ الذي يستشهد بكلمات الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أن يضبطها كتابة ولغة ما ينسبه إليه وهو أحد أفصح العرب. والكلمة نفسها منسوبة في أكثر من مرجع للإمام الشافعي، رحمه الله، أعني قوله:
(ما حاجّني جاهل إلا غلبني، وما حاججت عالماً إلا غلبته).