عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 20-09-2002, 01:23 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

الفصل الثالث: نبذة عن تاريخ النظر المقاصدي منذ العصر النبويَ:
أولاً-عصر النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة:
لا نستطيع في هذا البحث إيفاء موضوع التأريخ للنظر المقاصدي عند سلفنا الصالح منذ عصر النبي عليه الصلاة والسلام وعصر الصحابة رضي الله عنهم حقه الكامل بسبب محدودية حجم هذا البحث، ولأن موضوعه الأصلي مقتصر على المنهج المقاصدي عند الأستاذ القرضاوي على أن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه.
فنقول: إن المنهج المقاصدي كان معروفاً ومأخوذاً به منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم بل لعلنا نستطيع رؤية بدايات الاختلاف بين المنهج الآخذ بحرفية النص والمنهج الآخذ بمقصد النص وروح الشريعة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام والحادثة المشهورة في غزوة بني قريظة تظهر ذلك بوضوح: "عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم. وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم".
وفي هذه الحادثة اختلف الصحابة بين آخذ بحرفية النص وهو الفريق الذي لم يقبل أن يصلي العصر مع أن وقتها قد حلّ معتقداً أن النص النبوي منع الصلاة إلاّ عند الوصول إلى بني قريظة وبين آخذ بما رآه مقصداً للنص وهو التعجيل إلى بني قريظة لمعاقبتهم على نقضهم للعهد. ووفقاً لاجتهادهم لم يكن منع صلاة العصر إذا حلّ وقتها على من لم يَصلْ بعد إلى بني قريظة هو مقصود النص.
والنبي عليه الصلاة والسلام حين أقر كلا الفريقين على موقفه فقد وضع أساساً عظيماً لمبدأ التسامح بين ذوي الاجتهادات المختلفة وهو في الوقت نفسه، والله أعلم، أراد أن يبقي كلا وجهتي النظر لأنهما متكاملتان تصحح إحداهما الأخرى إذ من جهة يصحح "المقاصديون" الحرفيين فينبهونهم إلى مقصد النص ومغزاه ومن جهة أخرى يحافظ "الحرفيون" على حرف النص فيحولون بهذا دون ما قد يعتري المقاصديين من وهم في تلمسهم لمقصد النص، إذ أن النص، وهذا ما لا يجب استبعاده، قد يكون مقصده الحقيقي موجوداً في حرفه ولكن هذا المقصد قد يبدو لسبب ما غير مقصود وهو في الحقيقة كذلك.
والنظرة التي تدعو إلى أخذ كل من كلام الشارع وكلام الناس بالمقاصد أي بالمعاني الحقيقية للكلام لا بألفاظه الظاهرة نظرة إسلامية عريقة إذ أن مقاصد المكلَّف أيضاً تحدد حكم ما قام به من فعل قال النبي عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".وثمة علاقة وطيدة بين النظر في الحكم إلى مقصد المكلف وإلى مقصد الشارع فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن طلاق الثلاث مرة واحدة وقد أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام عن رجل قد طلق امرأته ثلاث طلقات جميعاً فقام غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟" حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟.فظاهر فعل الرجل الذي غضب منه رسول الله هو السير بمقتضى النص المحدد للطلاق ذي البينونة الكبرى وأما حقيقة مقصده فهو التلاعب بمقصد الشارع والالتفاف عليه وهذا الغضب الذي كان من المعصوم عليه السلام نعده دليلاً آخر على تحريم الحيل في الشريعة الإسلامية وإن أباحها قدماء ومحدثون .
ومن أعظم فقهاء الصحابة عمر رضي الله عنه واشتهر عنه فهم مقاصد النصوص والسير وفق هذه المقاصد ومن أمثلة ذلك المشهورة إيقافه لصرف سهم المؤلفة قلوبهم لأنه رأى أن مقصد هذا السهم هو تألف قلوب من يخشى منهم على الإسلام وهو في طور الضعف ولم يكن هذا الوضع قائماً في عهده.وإيقافه حد السرقة في عام الرمادة وكان عام قحط وشدة يمكن عده أيضاً مثالاً على النظرة المقاصدية للحدود فحد السرقة مقصده ردع الجشعين الذين يسرقون وهم يقدرون على العيش بدون سرقة فهو لا يتناول أولئك الذين عضهم الجوع فسرقوا اضطراراً أو كانت شبهة اضطرارهم قوية بحيث تدرأ عنهم الحد.