عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 20-09-2002, 01:24 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

ثانياً-عصر الأئمة والأصوليين الكبار:
واستمر الأخذ بالنظر المقاصدي بعد ذلك ومن أمثلة ذلك أخذ أبي حنيفة وتلامذته بمبدأ"الاستحسان" ولاسيما ما سمي"استحسان الضرورة"وهو"ما خولف فيه حكم القياس نظراً إلى ضرورة موجبة أو مصلحة مقتضية،سداً للحاجة أو دفعاً للحرج"
ومعلوم أن دفع الحرج من مقاصد الشريعة القطعية فهو إذن يقدم على القياس الظاهر الذي هو دليل ظني.
وأخذ الإمام مالك بالنظر المصلحي واشتهر أخذ المالكية بالمصلحة المرسلة حتى عد هذا من مميزات هذا المذهب (14)والأستاذ أحمد الريسوني يعد النظرية المقاصدية للشاطبي ذات علاقة وطيدة مع تاريخ المذهب المالكي الطويل في النظر المصلحي .
ومن الأمثلة التي تضرب على مراعاة المذهب المالكي للمصلحة التي هي هنا التيسير ورفع المشقة الموقف من بيع المعاطاة وهو البيع الذي يكتفي فيه البائع بإعطاء السلعة والشاري بإعطاء الثمن، فبينما أبطلت الشافعية والظاهرية هذا البيع وصححته الحنفية والحنابلة بشرط تحديد الثمن وعلمه وعدم تصريح أحد العاقدين بما ينافي العقد صحح المالكية هذا البيع مطلقاً ما دام هناك ما يدل على رضى المتعاقدين بهذا العقد.
وبعد عصر الأئمة ظهرت النظرية المقاصدية على أيدي أئمة كبار من أمثال الجويني (توفي عام 478ه) والغزالي(توفي عام 505ه) وابن القيم (توفي عام 751ه) فالجويني كان رائداً في التنبيه إلى أهمية معرفة المقاصد فهو يقول في كتابه البرهان "ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي، فليس على بصيرة في وضع الشريعة" .وهو أول من قسم الكليات التي تراعيها الشريعة إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات ثم جاء من بعده الغزالي الذي قعّد هذا التقسيم بصورة واضحة وتكلم عن الضروريات الخمس قائلاً إنها لا تخلو منها شريعة وذلك في كتابه "المستصفى من علم الأصول".
واهتم من بعد هؤلاء الإمام ابن تيمية (توفي عام 728) ببيان مقاصد الشريعة وهو يقول مثلاً "إن الشريعة جاءت لتحسين المحاسن وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها. وإنها ترجح خير الخيرين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما" .ويقول في كتاب "القواعد النورانية الفقهية": "الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده الملك، والعتق قد يكون مقصوداً للعقد فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيراً، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" .
وجاء بعد ابن تيمية تلميذه النجيب ابن قيم الجوزية الذي دافع عن الرؤية المقاصدية للشريعة دفاعاً رائعاً ولا سيما في كتابه العظيم "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فهو مثلاً يقول في ميدان شرحه للمبدأ الفقهي القائل إن العبرة في العقود للمقاصد والنيات: "ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم، وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم في الخمر عاصرها ومعتصرها، ومن المعلوم أن العاصر إنما عصر عنباً ولكن لمّا كانت نيته إنما هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عصره ولم يعصمه من اللعنة لباطن قصده ومراده فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها. ومن لم يراع المقصود في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز له عصر العنب لكل أحد وإن ظهر له أن قصده الخمر" .
ونلاحظ هنا أن ابن القيم ينتقد نقداً عنيفاً وجهة النظر السطحية التي تحكم على الأفعال بظاهرها لا بمقاصدها مما يضيع مقاصد الشريعة حين يحتال المكلف لجعل الحرام حلالاً بالالتزام بالظاهر وتناسي القصد الباطن ويزداد التوجه المقاصدي لابن القيم رحمه الله وضوحاً في هجومه على من أباح ما يدعونه "الحيل الفقهية" وهو يناقش المحلين لهذه الحيل مناقشة مصلحية قيمة قائلاً إن هذه الحيل تبطل مقاصد الشريعة وتناقض حكمتها فمثل المحتال مثل من سمى السم دواء ووصفه للناس .