عرض مشاركة مفردة
  #6  
قديم 23-09-2002, 03:12 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

ثالثاً-وقفة مع الاعتراض الظاهري:
من الخصوم الألداء لفكرة ربط الأحكام الشرعية بعلل وحكم معقولة المذهب الظاهري الذي سنذكر في هذه النبذة الموجزة آراء لمنظره الأكبر أبو محمد بن حزم رحمه الله لاعتقادنا أن عنده من المفيد ما يقوله .
يزعم ابن حزم أنه ما من أحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم علل شيئاً من أحكام الشريعة "وإنما ابتدع هذا القول متأخروا القائلين بالقياس" .
ويلجأ ابن حزم في إنكاره للتعليل إلى حجة أراها شخصياً في غاية القوة المنطقية ولم أر أحداً رد عليه فيها ولم يذكرها الأستاذ الريسوني في مناقشته القيمة للمذهب الظاهري في كتابه الذي ذكرناه سابقاً لسبب لم أعرفه وقد يكون عد هذا الاعتراض من المباحث الكلامية الفلسفية التي قال إنه لا يريد السقوط فيها.
يقول ابن حزم "أخبرونا عن هذه العلل التي تذكرون: أهي من فعل الله وحكمه؟ أم من فعل غيره وحكم غيره؟ أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره؟" وبعد أن رأى أنهم لا يستطيعون الخروج عن واحدة من هذه الثلاث قال إنهم سيقولون إنها من فعل الله عز وجل وحكمه عندها سيسألهم: أفعلها الله تعالى لعلة؟ أم فعلها لغير علة؟ "فإن قالوا: فعلها لغير علة تركوا أصلهم (أي التعليل.م) أو قيل لهم: ما الذي أوجب أن تكون الثانية بلا علة والأولى بعلة وهذا تحكم غير دليل. وإن قالوا بل فعلها الله تعالى لعلل أخر سئلوا في هذه العلل إلى ما لا نهاية وأثبتوا وجود ما لا أول له غير الله وهذا كفر!"
وهذه المحاججة تبدو في ظاهرها بالفعل كلامية فلسفية ولكنها في الحقيقة تضع حداً لمن يريد أن يحكم العقل البشري في كل صغيرة وكبيرة من الشريعة والعقيدة وتثبّت الفكرة الصائبة القائلة إن من المطلوب منا الإيمان بأفعال لله وعقائد لا نعلم حكمتها. وعيب النظرية الظاهرية هو إنكارها التعليل في ذلك القسم من أحكام الشريعة الذي يستطيع العقل تعليله بل يجب عليه. وابن حزم يضرب أمثلة يراها مقنعة في إنكار التعليل مثل قولهم إن المشقة علة في حكم قصر الصلاة للمسافر فهو يقول: فلم لم تقصر إذاً للمريض والمشقة موجودة! وجوابنا هو أن المشقة تجلب التيسير أيضاً في هذه الحالة فالشارع طلب من المريض أن يصلي كما يستطيع ولم يلزمه بصلاة الصحيح. لا يصح إذاً إنكار التعليل في كل حالة لأن هنالك قسماً من أحكام الشريعة أساسياً يخص الظروف الموضوعية المادية لحياة الإنسان وهذه الظروف لها سنن (هي أيضاً من وضع الخالق عز وجلّ) والأحكام تنسجم بالضرورة في هذا القسم مع هذه السنن وهذا الانسجام هو الذي ندعوه بالحكمة أو العلة فالله عز وجل جعل من خواص مادة الكحول التأثير في الدماغ البشري تأثيراً هو الإسكار ولما كان هذا التأثير يتناقض مع مراد الله من بقاء الإنسان في حالة توازن عقلي كان الحكم بتحريم الخمر منسجماً مع هذا المقصد وناتجاً عن تلك السنة الطبيعية التي جعلها الله لتلك المادة.
وقد جعل الله من طبائع النساء الغيرة بين الضرائر وهذه السنة الطبيعية اقترنت بمقصد شرعي هو التراحم بين الأختين فأدى هذا إلى الحكم بحرمة الجمع بينهما في الزواج.
وبالعودة إلى موضوع هذه الفقرة نقول إن التعليل يقف هنا ولا نسأل عما هو بعد ذلك (مثلاً لماذا خلق الله الإنسان محتاجاً للزواج!) فأبو محمد رحمه الله إذاً تعجل بإيقاف التعليل والتعليل حقاً يجب أن يقف عند نقطة هي ما بعد علة الحكم الأول وعندها يصبح فهم ابن حزم للآية الكريمة "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" صحيحاً إذ أن البحث في الحكمة مطلوب شرعياً لحد هذه النقطة.


رابعاً- وقفة مع مناقشة ابن الجوزي للصوفيةتوفي عام 597ه)
تستوقفنا مناقشة ابن الجوزي رحمه الله الحادة للصوفية في كتابه الشهير "تلبيس إبليس" لأنها بالفعل تعبير رائع عن رؤية هذا الفقيه الكبير للمقاصد العامة للشريعة الإسلامية من خلال نقد الرؤية السائدة بين متصوفة زمانه التي شطبت قسماً كبيراً من هذه المقاصد مما أدى إلى خلل خطير في المجتمع الإسلامي آنذاك. وهذه أمثلة من السلوك والمفاهيم الصوفية التي انتقدها على أرضية من الفهم السليم للمقاصد الشرعية:
1-احتقار العلم والعلماء:
قال بعض الصوفية "المقصود العمل" مهملاً بهذا مقصد الشريعة الكبير في الحث على طلب العلم وفي إزالة الجهل "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" ولهذا التيار من الصوفية تبريرات لترك العلم الشرعي كقولهم إنه "علم الظاهر" أما هم فمشغولون بعلم الباطن! وقالوا إنهم أخذوا علمهم عن الحي الذي لا يموت بينما العلماء يأخذون علمهم ميتاً عن ميت! ولجأ كثير منهم إلى إتلاف ما كان عندهم من كتب، وفي الرد على هذا التيار الغالب في الصوفية (وليس هو رأي جميعهم) يقول ابن الجوزي: "العلم نور وإبليس يحسّن للإنسان إطفاء النور ليتمكن منه في الظلمة ولا ظلمة كظلمة الجهل، ولما خاف إبليس أن يعاود هؤلاء مطالعة الكتب فربما استدلوا بذلك على مكايده حسّن لهم دفن الكتب وإتلافها وهذا فعل قبيح محظور وجهل بالمقصود بالكتب وبيان هذا أن أصل العلوم القرآن والسنة فلما علم الشرع أن حفظهما يصعب أمر بكتابة المصحف وكتابة الحديث" وأوضح ابن الجوزي في هذا السياق أن العلم سبيل لمعرفة أحكام الله "من أكبر المعاندة لله عز وجل الصد عن سبيل الله وأوضح سبيل الله العلم لأنه دليل على الله وبيان لأحكام الله وشرعه وإيضاح لما يحبه ويكرهه فالمنع منه معاداة لله وشرعه" .
2- ترك العمل وتفضيل البطالة:
ما أكثر الآيات و الأحاديث التي تحض على العمل وتفضله على الكسل والتبطّل! قال عز وجل "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" و قال عليه الصلاة والسلام "لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها الله وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" وقال "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود صلى الله عليه وسلم كان يأكل من عمل يده".
نعى ابن الجوزي على متصوفة عصره استباحتهم للتسول ومفهومهم الخاطئ للتوكل ينقل عن أحدهم أنه سئل عن التوكل فأعطى آخر درهم كان عنده ثم قال: "استحييت من الله أن أجيبك وعندي شيء" وكان بعضهم يهب كل أمواله ثم ينصرف إلى التسول وابن الجوزي يوضح مفهوم الإسلام من التوكل الذي يتنافى مع ترك العمل والأخذ بالأسباب وهكذا فهمه الصحابة، يقول ابن الجوزي: "لو فهم هؤلاء معنى التوكل وأنه ثقة القلب بالله عز وجل لا إخراج صور المال ما قال هؤلاء هذا الكلام ولكن قلّ فهمهم وقد كان سادات الصحابة والتابعين يتجرون ويجمعون الأموال وما قال مثل هذا أحد منهم.وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال حين أمر بترك الكسب لأجل شغله بالخلافة، فمن أين أطعم عيالي؟. وهذا القول منكر عند الصوفية يخرجون قائله من التوكل .
3-مفهومهم الخاطئ لموقف الشريعة من المال:
تركيز الصوفية على مبدأ الزهد جعلهم يعتقدون أن المال شر لا خير فيه وأن الشريعة الإسلامية مقصدها الأساس في موضوع المال محاربته والحث على عدم اقتنائه وتضييع الموجود منه بأي طريقة كانت حتى ولو كانت رميه في النهر!
وفي مناقشة ابن الجوزي الطويلة مع الصوفية لا ينفك يعيد أن الشريعة حثت على طلب المال من وجوهه المشروعة وتنميته بصورة مشروعة أيضاً وهو يرد على قول المحاسبي "إن الله عز وجل نهى عباده عن جمع المال وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن جمع المال" فيقول: "وقوله: ترك المال الحلال أفضل من جمعه ليس كذلك بل متى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء" ويضرب لذلك أمثلة من حياة الأنبياء والصالحين فقد كان لإبراهيم عليه السلام زرع ومال وكذلك لشعيب وكان سعيد بن المسيب يقول لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون به عرضه.