عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 16-07-2002, 02:48 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

سأذكر للقارئ هنا أن قاسم أمين لم يركز دعوته على مطلب نزع "حجاب المرأة" بمعنى الحجاب الذي استجد بعد عهده، بل ركزها على مطلب خروج المرأة من البيت إلى المدرسة والمجتمع .
وخصومه سموا هذه الدعوة "دعوة إلى السفور" وإن كان مؤيدو الدعوة أيضاً لم يمانعوا في مصطلح "السفور" أيضاً بل كانت في مصر هناك مجلة اسمها "السفور" .
يستعمل مصطلح "الحجاب" في أيامنا هذه بأحد معان ثلاثة: 1- غطاء الرأس، 2- لباس معين لكل الجسد والرأس، 3- حالة شاملة للمرأة تحتجب فيها المرأة في بيتها وتنعزل عزلة مطلقة عن بعض القطاعات الاجتماعية.
حين أقول إن إشكالية "الحجاب" إشكالية حديثة أعني أن المجتمع الإسلامي قبل غزو القيم الغربية الذي جاء به العصر الحديث ما كان مضطراً "لابتكار" هذه الإشكالية فهي جاءت حصراً على أرضية وضعية نشأت حديثاُ مع الغزو الثقافي القيمي الذاتي (سميته غزواً ذاتياً لأنه لم يثبت لي ولا أظنه يثبت لأحد من الباحثين أن الاستعمار الغربي فرض بالقوة إلغاء الحجاب بل كان العامل الرئيسي التقليد المنبهر المستلب لشرائح ثقافية اجتماعية قائدة عندنا).
وقبل عصر الغزو هذا كان للمرأة المسلمة أوضاع مختلفة باختلاف الزمان (اختلف وضع المرأة بين عصر الصحابة والعصر الأموي والعصر العباسي وعصور الانحطاط) واختلاف المكان (اختلف وضع المرأة بين الريف والمدينة والبادية واختلف أيضاً بعض الاختلاف مع اختلاف الشعوب الإسلامية في تقاليدها المحلية) ولكن في جميع الحالات كان هناك معيار شرعي لثياب المرأة وثياب الرجل يلتزم بديهياً (وهو المعيار المعروف الذي يوجب أن لا يكون الثوب يشف أو يصف).
هذا المعيار (وهذا من البديهيات المنسية في عصرنا) لم يكن يعني زياً محدداً "موحداً" كأزياء الجنود للمرأة وللرجل، فهو لم يمنع من وجود أزياء مختلفة (صرنا الآن نسميها "تقليدية") بين الشعوب الإسلامية المختلفة والشرائح المختلفة في كل شعب (عندنا في بلاد الشام كان هناك زي للبدو وزي لفلاحي المناطق يختلف من منطقة لأخرى وزي للمدن)، فلا معنى في الحقيقة للخطأ الشائع الذي يزعم أن زي المرأة المسلمة لا يجوز أن يكون إلا على شكل واحد هو مثلاً ما يسمى "الجلباب"، وهو زي مبتكر لا يتجاوز عمره بضعة عقود، ولا علاقة له ضرورية بالجلابيب المذكورة في القرآن،وهو مجرد زي جائز يفي بالمعيار الشرعي للزي الإسلامي ولكنه "جائز" فحسب وهو ليس "إلزامياً" بحال من الأحوال!
ولا يوجد لا نص قرآني ولا نص من السنة يفرض على المرأة أن ترتدي زياً محدداً في عرض البلاد الإسلامية وطولها!فشروط الزي الشرعي لا تستلزم التفصيلة نفسها على طريقة واحدة كأزياء الجيش! وفي اعتقادي أن أي منصف سيرى أن لباس المرأة الحورانية مثلاً الذي لا تزال ترتديه النساء في جنوب بلاد الشام من كبيرات السن كان لباساً إسلامياً لا غبار عليه وفيه جمالية خاصة وبصمة أصيلة جلبتها تلك المنطقة من مناطق عالم الإسلام كأنها "غرزة" خاصة في السجادة الإسلامية الخالدة! ، ولا تتعارض الجمالية مع الإسلام بالضرورة!، ولا أعرف من أين جاء المحدثون بهذه الفكرة التي تزعم أن الإسلام يشجع على قبح الثياب! ما أبعد الفارق بين مفهومي "الثياب المحتشمة" و"الثياب القبيحة" وبسبب الدمج بين هذين المفهومين نشأت هذه الظاهرة المحزنة التي سأتكلم عنها بعد قليل وهي ظاهرة التذمر من الحجاب عند المحجبات وعده قيداً أو بأحسن الحالات تضحية كبيرة تقوم بها المرأة، وفيه شخصية مميزة، وكذلك لباس المرأة الشركسية إلى آخره، فهذه الأزياء كانت منظومات متكاملة متناسبة مع الاعتبارات جميعها: الاعتبار الشرعي والاعتبار العملي المتعلق بالمناخ والعمل والاعتبار الجمالي والاعتبار الثقافي الذي يميز كل ثقافة محلية عن الأخرى.إن الأزياء المحلية التي صرنا نسميها الآن "أزياء تقليدية" للرجال والنساء كانت هي نسخة المنطقة الخاصة من الزي الإسلامي، بحيث يفي بالمتطلبات الشرعية لزي المسلم والمسلمة ويحمل بصمة الذوق المحلي ونكهته الجمالية الخاصة!
وبخلاف العصر الحديث كان هناك تقاليد صارمة موجهة للجنسين كليهما فيما يتعلق بموضوع ما يجوز ظهوره وما لا يجوز ظهوره من الجسم وهي في مجملها طبعاً لا تنزل عن الحد الأدنى المطلوب شرعاً للستر ولكنها قد تزيد عليه وهذا لا يخص النساء فقط بل يخص الرجال أيضاً، ولعلي أذكر للقارئ هنا ذلك الخلاف الطريف الذي يضرب في كتب الفقه القديمة مثلاً على اختلاف الأحكام في الزمان والمكان وهو اختلاف المعايير لمفهوم "المروءة" (الذي يطلب مثلاً للشاهد أو القاضي) بين الشام والمغرب، فقد قيل أن كشف الرأس عند أهل الشام كان كافياً للحكم على الرجل بعدم المروءة لأن تقاليد القوم كانت على هذا! على حين أن كشف الرأس ما كان يخل بالمروءة في المغرب لأن القوم هناك جروا على هذا.
فالعصر الحديث جاءنا بمفهوم "الحجاب" كلباس خاص يميز المرأة المسلمة،واستعمل المفهوم من قبل خصوم الشريعة والمشنعون عليها وناصرهم ضيقوا الأفق الذين يحسبون أنفسهم أنصارها للزعم أن الإسلام يخص المرأة حصراً بزي يميزها، والحقيقة أن كلا المرأة والرجل لزيه شروط شرعية لا يجوز له الخروج عليها! وفي هذا المفهوم من العيوب ما أراه يغيب عن عيون أنصار الحجاب من الجنسين، وهذه العيوب ستتجلى في الفقرات اللاحقة حين أناقش بعض أقوال المشاركين في حلقة برنامج "الحياة حلوة" المذكورة ولكنني سأذكر هنا واحدة من هذه العيوب الخطيرة:
لقد أقر المسلمون في البلاد التي قبل رجالها استيراد اللباس الغربي لأول مرة بنوع من المعايير المزدوجة تعامل المرأة بما لا تعامل به الرجل فحين لبس الرجل اللباس الغربي (الذي هو للعلم لا يتناسب مائة بالمائة مع المتطلبات الشرعية للباس الرجل أيضاً!) فإنه "حرم" المرأة من أن تحتذي حذوه فتقلد لباس المرأة الغربي! .
هذه النقطة أراها في غاية الأهمية وإني لأدعو القارئ العزيز إلى التمعن فيها ملياً:
حين صار اللباس الغربي عندنا يعتبر هو "الطبيعي" وهو "المعياري" فإن هذا تضمن بصورة منطقية لا محيد عنها أن كل لباس غير غربي هو "غير طبيعي" وهو بالتالي "شاذ" و "خارج عن المألوف"!. ومن هنا تنظر البلاد التي تبنى رجالها اللباس الغربي ببعض الاستغراب إلى بلاد أخرى حوفظ فيها على "اللباس التقليدي" كبلاد الخليج وليبيا والسودان وهذه النظرة هي عينها ينظر بها إلى المرأة التي خرجت على "المألوف" أي الزي الغربي فارتدت الحجاب .
قال المثل المعروف: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" وهذا المثل الذي نضربه هذه الأيام كثيراً في ميدان السياسة يمكن لنا في اعتقادي أن نضربه في مجال آخر هو مجال الحجاب. إننا حين تنازلنا عن لباسنا التقليدي كرجال سهّلنا اضطهاد المرأة التي ترفض السير وفق "مألوف" اللباس الغربي!
لقد أصبح نظام الثياب عندنا نظاماً هجيناً يعكس هجانة كل نظامنا الفكري والاجتماعي والسياسي والمرأة المسلمة كانت أبرز ضحية من ضحايا هذا الوضع الهجين.
وبسبب التمييز في المعاملة بين المرأة والرجل في موضوع الأزياء، حيث وحدها المرأة منعت من التطابق التام مع المعيار الغربي، ظهر عند المرأة الشعور بأنها "مستهدفة" وأنها قيدت بقيد حين طلب منها الحجاب، وهذا ما سهل أيضاً (وهذا ما لا يذكر أيضاً في النقاشات حول هذا الموضوع) للغربيين أن لا يروا في الحجاب إلا تمييزاً ضد المرأة ما دامت المرأة لوحدها ارتكبت "وقاحة" مخالفتهم في الزي! ولو كان رجال المسلمين حافظوا على أزيائهم التقليدية لصار اضطهاد الزي الإسلامي بتشكيلاته العديدة (التي ذكرتها قبل قليل) أصعب، ففي هذه الحالة لا يوجه الاضطهاد إلى أفراد من جنس واحد بل إلى شعوب كاملة!
ولهذا لم يعجبني تماماً جواب المسلم الذي أجاب دكتورة غربية على اتهامها للإسلام باضطهاد المرأة حين فرض عليها قيد الحجاب وهو الجواب الذي أعجب معد برنامج "الحياة حلوة" الأستاذ مطوع،قال المسلم للدكتورة المذكورة: ألست حين تذهبين إلى السهرة يطلب منك منظموا السهرة فستان سهرة محدداً؟وكذلك حدد الله للمرأة التي تريد الذهاب إلى الجنة "ثوب سهرة" للجنة هو الحجاب! لم يعجبني الجواب كل الإعجاب لأنه تأكيد لفكرة أن المرأة لوحدها دون الرجل هي التي خضعت في الإسلام لقواعد تحدد لها زيها!