عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 28-10-2002, 03:40 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

-عصر الشك في قيمة الوعي كعنصر مشكل للسلوك ومن خلاله للبنية الاجتماعية:

إن دور الوعي كأساس للسلوك وبالتالي لتغيره ومن ثم لتغيير البنية الاجتماعية لم يبق أمراً مسلماً به، بل جاءت الفلسفة الحديثة الغربية في الاتجاه المادي منها للتشكيك به.
الماركسية بنت منظومتها النظرية على أساس الفكرة القائلة أن الوعي هو انعكاس للواقع الاجتماعي وأن من يقول إن الوعي يكون هذا الواقع هو مثالي لا بد له من أن يصطدم بما تعده هذه الفلسفة حقيقة وهو أن الوعي يعبر عن تطور البنية الاجتماعية ولا يخلق هذا التطور. ومن هنا جاء نقد الماركسية اللاذع لما دعي بالاشتراكية الطوباوية التي وضع أقطابها تصوراً لمجتمع بديل خال من مفاسد المجتمع القائم، واعتمدوا في إنشاء هذا البديل على عنصر الوعي والاقتناع وخصوصاً الاقتناع المبني على القيم الأخلاقية والضمير الذي يحض الإنسان على مناصرة العدالة.
الماركسية رأت أن سلوك الطبقات الاجتماعية يتحدد بمصالحها وليس بقناعات عقلية أو أخلاقية مجردة عن المصلحة، بل و أفكار هذه الطبقات أيضاً و رؤاها عن العالم تنبني على أساس المصلحة، ومن هنا لا تفيد الدعوة الأخلاقية أو العقلية المجردة لبناء المجتمع العادل في تحويل هذا المجتمع من فكرة إلى واقع فالمصلحة هي الدافع الذي يعتمد عليه "الاشتراكيون العلميون" لبناء هذا المجتمع أي هم يعتمدون على الطبقة التي لها مصلحة في بناء هذا المجتمع.
ومن تناقضات الماركسية الكبرى أنها في التطبيق العملي اعتمدت على ما كانت تنكره على "الطوباويين" إذ جندت المناضلين عملياً لا على أساس مصلحتهم الطبقية بل على أساس القناعات العقلية والأخلاقية وكان أكبر المناضلين الماركسيين بما فيهم مؤسسو الماركسية بالذات من غير الطبقة التي افترضت الماركسية أنها صاحبة المصلحة في النضال الاشتراكي!
ولأجل أن ينتصر شيوعيو روسيا و الصين وفيتنام وكوبا وغيرها من البلاد تم الاعتماد على نخبة من الكوادر التي لم تحرك سلوكها المصالح التي افترضتها الماركسية، وحين سيرت المجتمعات الاشتراكية لاحقاً فعلاً على هدي المصالح المادية للأفراد والجماعات تفككت التجربة الاشتراكية بأسرها وعادت الرأسمالية!
هذه تجربة غربية أو ذات جذور غربية للقفز على "البديهية التقليدية" القائلة بأولوية الوعي انتهت إلى إخفاق مدو.
على أن الحضارة الرأسمالية الحديثة جلبت على أقل تقدير في بعد العلاقات الدولية مبدأ يعمل به وليس من الضروري أن يعلن صراحة هو المبدأ التالي: "يتحدد السلوك حسب المصلحة المادية"، وهذا المبدأ هو بمثابة "سر مذاع" فالسياسيون يدعون أنهم تسيرهم دوافع أخلاقية وهم يعرفون وغيرهم يعرف أن المصالح المادية هي المحرك الأساسي لهم إن لم نقل إنها المحرك الوحيد.
ومع تراجع دور الدين، والاحتقار الذي جاءت به المادية الحديثة للأخلاق والوعظ الأخلاقي بقي من فاعلية الوعي المعترف بها أنه يحدد ما هي المصلحة ويحث صاحبه على السير وفقها! أي أن الوعي يقتصر دوره على تنظيم أمور الهوى وتيسيرها وتسييرها!
ولا شك أن التطورات اللاحقة في الفلسفة والعلوم الإنسانية في الغرب قد عززت هذا الميل لتحديد دور الوعي في تشكيل البنية الاجتماعية بل حتى في تشكيل السلوك الفردي، وهذا ما يتضح عياناً في النظرية الفرويدية التي جعلت الوعي مجرد الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي هو اللاشعور بما فيه من تثبيتات واستيهامات غريزية.ولم تكن التطورات اللاحقة أحسن حالاً فقد أعلن فوكو "موت الإنسان"، الذي لم يعن إلا تقريراً لتلاشي الحرية الفردية التي كان من المفروض أن تقريرها كان مفخرة الحضارة الحديثة،ولم يكن اعتراض وجودية سارتر الذي قرر أن الإنسان حر بطبيعته إلا اعتراضاً أجوف لأن هذه الحرية لا موضوع لها فهي عبثية مطلقة مبنية على مبدأ إلحادي جذري يقرر أن الوجود لا معنى له!
إن هذه التشكيكات النظرية في قدرة الوعي، وخاصة الوعي الأخلاقي، على تشكيل السلوك البشري، وتغييره، وتغيير البنية الاجتماعية، انعكست في شكل يأس من تغيير الواقع الذي يحس الإنسان في الغرب وفي غير الغرب بفطرته السليمة الكامنة في قاع الوعي المكبوت أنه واقع غير سليم وغير إنساني. وأعتقد أن النقد الماركسي الآثم لكل من يدعو إلى تحكيم الأخلاق لا المصلحة المادية في البناء الاجتماعي قد صار في الغرب الآن لا يطاق، لأنه تم تبنيه لمصلحة القوى الأكثر أنانية واستهتاراً بمصلحة البشرية، وما عادت الحركات الغربية الجديدة التي تدعو إلى إيقاف تدمير البيئة والحد من النزعة العسكرية العدوانية والحد من التفاوت الفاحش بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة في العالم تفكر ولو للحظة في الاستناد إلى العقلية الماركسية التي تحتقر دور الوعي والأخلاق.
لقد أثبت الوعي، وخصوصاً ذلك القسم منه الذي هو الأخلاق، أنه هو المرجع الأخير للإصلاح وأنه الرهان الأخير لبشرية يهددها الفناء فعلاً لا قولاً! (هذه الأخلاق التي لا يمكن أن تجد لها أساساً في النظريات المادية التي سادت في القرون الأخيرة في الغرب بل تجد أساسها الوحيد في نظرية الفطرة التي جاءت بها الأديان السماوية ولا سيما الدين الإسلامي بنصوصه الأصلية الباقية التي لم ينلها التحريف كما نال نصوص الأديان الأخرى) .

ثانياً: في الوعي مقرراً للسلوك- السلوك العالي والسلوك المنحط:

أدعو "بالسلوك العالي" ذلك السلوك الذي يسيره مثل أعلى، هو الذي يحدد لصاحبه هدفاً عاماً يتجاوز المصلحة الفردية الذاتية والدوافع الغريزية الدنيا (وإن كان لا يمحو هذه المصلحة وهذه الدوافع ولكنه يخضعها للهدف الأعلى ويجبرها على الانسجام معه)
وأدعو "بالسلوك المنحط" ذلك السلوك الذي لا يسيره شيء غير المصلحة الذاتية الأنانية والدوافع الغريزية الأولية الدنيا.
وبين هذين الحدين من السلوك ثمة سلوك يرجح فيه بدرجات مختلفة المثل الأعلى أو المصلحة الذاتية والدوافع الدنيا فما نراه في سلوك أفراد مجتمعنا الآن أنهم في غالبيتهم لا يخلون من لحظات يخضع فيها سلوكهم للمثل الأعلى ولكن الأغلب عليهم أن هذا المثل الأعلى عندهم مغلوب لا غالب ومرجوح لا راجح، ولهذا نقول عن مجتمعنا إنه مجتمع متخلف ممزق لا موحد، وبنتيجته النهائية التي نريد التركيز عليها هنا وفي زماننا هذا: هو مجتمع "قابل للاستعمار" وفق تعبير مالك بن نبي رحمه الله الأثير.
إن سؤال النهضة الحضارية هو في نهاية التحليل ليس إلا سؤال تغير السلوك عندنا وتحويله من سلوك يغلب على طبيعته أنه "سلوك منحط" إلى سلوك صفته الغالبة أنه "سلوك عال".
وهذا التحول السلوكي صار الآن في مجتمعنا ضرورة وجودية ولم يعد مجرد دافع لتحسين وضع المجتمع، إنه لا يتوقف عليه بقاء المجتمع متخلفاً أو نهضته بل يتوقف عليه بقاؤه أو زواله من الوجود! وإن أول شرط من شروط هذا التغير المطلوب الآن هو أن تعي الغالبية الساحقة من أفراد مجتمعنا هذه الحقيقة الحاسمة.

ثالثاً: ما الذي يغير السلوك الحضاري؟

1-نظرية توينبي ونظرية مالك بن نبي:
يرى أرنولد توينبي أن الحضارة تنشأ حين تواجه جماعة بشرية معينة "تحدياً" عظيماً "باستجابة" مناسبة، ويرى مالك بن نبي أن الحضارة تنشأ حين تندفع جماعة بشرية (يسميها بن نبي "إنسان ما قبل الحضارة") بتأثير فكرة عظيمة من طبيعة دينية صريحة أو مضمرة إلى بناء حضارة وفق القالب الذي أعطتها إياه المثل العليا للفكرة الدافعة (أو "الفكرة المطبوعة") وهذه الفكرة العظيمة تنظم الطاقة الحيوية للأفراد وتوجهها في اتجاه بنائي.
وفي اعتقادي أن كلتا النظريتين يمكن دمجهما في فكرة عامة واحدة: إن الجماعة تملؤها حين تبدأ في بناء الحضارة فكرة هدف عظيم يستحق من الفرد أن يبذل قصارى جهده في سبيل تحقيقه متنازلاً عن دوافعه الأنانية ومستبدلاً مفهومه للسعادة من مفهوم أناني يجعل السعادة تتحقق بتحقق الدوافع الدنيا إلى مفهوم غيري يجعل السعادة تتحقق بتحقق الدوافع العليا.
تحول الدافع المهيمن على الفرد المحرك لسلوكه من دافع منحط إلى دافع عال هو الذي يميز مرحلة بناء الحضارة الجديدة، وهذا الدافع المهيمن يستقى من الفكرة الجديدة الجبارة التي فرضت نفسها على الجماعة وتبنتها الأخيرة بغالبيتها الساحقة.
كيف يحدث أن تنتقل الجماعة من مرحلة "السلوك المنحط" إلى مرحلة "السلوك العالي"؟
لا بد لهذا من حدث كبير قد يكون وحياً كما في نزول الرسالات على الأنبياء عليهم السلام، وقد يكون تحدياً وجودياً خارجياً كبيراً تواجهه الجماعة.
ومن الجدير بالذكر أن الجماعة، وكما يذكر توينبي مصيباً، قد لا تستجيب للتحدي استجابة مناسبة مما يقودها إلى الفناء بالمعنى المادي الحرفي أو بالمعنى الحضاري التاريخي.

2-في السلوك الراهن لمجتمعنا: هل التغير السلوكي الجذري ممكن؟

كل ما تقدم من قول عن الوعي،وتأثيره في السلوك الاجتماعي لأفراد مجتمع ما،والعوامل التي تزيد هذا التأثير أو تنقصه،كان هدفه البحث في مسألة واحدة ملحة تطرح نفسها بشدة في وضعنا الراهن:هل نستطيع أن نراهن على تغير في السلوك الحضاري لأفراد مجتمعنا بحيث يصل سلوكهم إلى مستوى من الفاعلية الإيجابية تدفع مجتمعنا في قفزة حضارية تنهي عهد الشرذمة والضعف والتمزق،عهداً وصل الآن إلى أسوأ حالاته، بحيث تواترت النذر التي تنبئنا بخطر فناء محقق لهذه الثقافة العظيمة إن لم يتغير السلوك الحضاري للغالبية تغيراً جذرياً؟.
إن المراقب الخارجي لمجتمعنا يذهله أن المبادئ المعلنة لهذا المجتمع:مبادئ الإسلام،هي مبادئ نهضوية حضارية كافية لبناء مجتمع صحيح يتناقض كل التناقض مع المجتمع القائم ،فما الأمر إذن؟ما هو هذا السر الغريب الذي يجعل هذه المبادئ الحضارية النهضوية بعيدة عن التأثير في الفرد؟ لماذا يؤمن المسلم نظرياً بمبادئ توجهه إلى "السلوك العالي" ولكنه يسلك "سلوكاً منحطاً"؟
الرد مع إقتباس