عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 28-10-2002, 03:41 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

أزعم أن الطبيعة العامة للسلوك النهضوي الحضاري المطلوب معروفة عند المسلم،ولكنها معرفة غير فاعلة،معرفة لا تسيّر السلوك فهي مثل معرفة الطالب بضرورة الاجتهاد حين يكون يسلك سلوكاً كسولاً معاكساً لما يعلم أنه هو المطلوب والصحيح! والذي يذكّر ابن مجتمعنا بقواعد السلوك السليم النهضوي الذي يكفل وحده إمكانية نهضة مجتمعنا من كبوته المريعة معرّض للسخرية لكونه يعظ مواعظ فارغة لا فائدة منها!وقد يوصف "بالمزايدة" فإن حاول تطبيق ما يدعو إليه من سلوك في وسطه المحيط في السكن أو العمل أو العائلة سخر منه المجتمع ووصف "بالحنبلية"!
هذا كله وضع مجتمع استنفد ما عنده من حماس ومن أمل،واستنام كل فرد فيه إلى شؤونه الخاصة،فهو يحرك أغلب أفراده دوافع منحطة تجعل سلوكهم من نوع السلوك المنحط عموماً.
ولكن هذا الوعي النظري الذي قلنا أنه موجود يشكل مع ذلك أرضية للنهضة على شرط انبثاق تلك الدفعة الحضارية الخارقة التي وصفها توينبي ومالك بن نبي والتي تكوّن الحضارة.
المسألة يمكن فهمها إذا أخذنا المثال الفردي التالي:
شخص صحيح الجسم ينصحه الطبيب بجملة نصائح تكوّن مفهوماً متكاملاً عن "السلوك الصحي" ولكنه وهو صحيح يميل إلى الكسل والنزعة الذميمة التي تجعل الفرد يفضل العاجل على الآجل ولا يفكر إلا في القريب دون البعيد،وفي اللذات العاجلة متناسياً العواقب الأليمة الآجلة.
في هذه النقطة الزمنية يبدو الطبيب"حنبلياً" وقد يبدو "مزايداً"،ويطلب المستحيل،ونصائحه مجرد مواعظ مملة،أو قد يقال عنها شيء معاكس له المفعول نفسه: إنها أرقى بكثير من أن يحتملها هذا الإنسان العادي،فهي تريد أناساً مثاليين هم إلى الملائكة أقرب!
والآن تأتي تلك الدفعة حين يقع الإنسان فريسة مرض خطير فيتذكر نصائح الطبيب بحذافيرها،ويصبح السلوك الصحي بعيداً عن أن يكون مجرد "مثاليات" أو "حنبليات" بل يغدو السلوك الوحيد لإنقاذ الحياة من الخطر الداهم!
هنا تستعيد "الوصفة السلوكية" كل فاعليتها،ويغدو سلوك الفرد موجهاً باتجاه هدف واحد هو الصحة أو الحيلولة دون الهلاك،ويتوفر عنصر الالتزام وعدم الإهمال!
أخشى أن هذه الثقافة العظيمة تحتاج إلى هذه الهزة لتنفذ وصفة "السلوك الحضاري الصحي" بحذافيرها!
وإنني لآمل أن حماقة القوى الكبرى الخارجية التي لم تترك مجالاً لمنفذ للناس عندنا بل تجاهلتهم واحتقرتهم وأرتهم أنها تريد هلاكهم المادي أو الثقافي،ستقود إلى تلك النتيجة الإيجابية التي تخرج "الوصفة السلوكية النهضوية" من عالم المواعظ إلى عالم التطبيق.
عندها سيستعيد الوعي دوره الفاعل في السلوك وسيتحول السلوك عند الغالبية إلى سلوك عال يشبه سلوك تلك الأمم العظيمة التي هدمتها الحرب فأعادت بناء نفسها بهمة من أمثال ألمانيا واليابان.

3-ما هو السلوك الحضاري النهضوي المطلوب؟

في انتظار لحظة الصحوة العتيدة تلك لن يكون من تضييع الوقت التفكير بصوت مرتفع في موضوع السؤال عن مواصفات السلوك المطلوب.
وقد قلت قبل قليل إنني أعتقد أن هذا السلوك بوجه عام معروف وإن كان التطبيق العملي له مهجوراً!ولأذكر بعض الخطوط العريضة التي تخص طبيعة هذا السلوك:

أ-الفكرة الموجهة للسلوك النهضوي:

إن هذا السلوك موجه بكلية لخدمة هدف عام يخص المجموع هو هدف بناء مجتمع ناهض قوي مادياً ومتلاحم في وحدته الداخلية كالبنيان المرصوص.
ففي كل صغيرة وكبيرة من السلوك يسأل الفرد نفسه:هل هذا ملائم لهدف النهضة ويساهم في تحقيقه أم هو غير ملائم ويعرقله؟
وعلى هذا الأساس سيقمع الفرد كافة الدوافع الداخلية التي تدفعه إلى سلوك غير ملائم للهدف النهضوي العام، وسيشجع الدوافع التي تنسجم مع هذا الهدف.

ب-أمثلة على مكونات هذا السلوك:

الفرد الذي يسير سلوكه الوعي النهضوي سيقمع في نفسه الدوافع المنحطة التي تمنع ابن مجتمعنا حالياً من الأشياء التالية (مثلاً):
-أن لا يحقر شيئاً من المعروف!
فابن مجتمعنا الآن لا يقبل أن يعمل أشياء مفيدة بدعوى أنها صغيرة لا قيمة لها وتكون النتيجة أنه لا يعمل شيئاً مفيداً لا صغيراً ولا كبيراً!
-قبول رئاسة الآخر!
فالفرد عندنا في وضعه المنحط الحالي لا يقبل إلا أن يكون هو "الزعيم"، والحال أن المخلص حقاً يقبل أن يتنازل عن نزعته التزعمية،ويقمع هذه النزعة،ويطيع الشخص الكفء لتسيير أي شأن اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي بالشكل الأمثل.
-التعود على العمل الجماعي:
ابن مجتمعنا يشكو من الفردية والضعف الشديد في القدرة على التنسيق مع الآخرين،والإنسان الذي يسير سلوكه الوعي النهضوي سيقمع هذا الميل الذي يمنعه من تعلم العمل الجماعي ويجتهد لحيازة أخلاق ابن فريق العمل الناجح.
-تعلم القيام بحوار نهضوي فعال:
من ملاحظات بن نبي الصائبة أن الفرد في المجتمع المنحط "مجتمع ما بعد الحضارة" لا يبحث في جدالاته عن الحقيقة،بل هو يبحث دوماً عن حجج يفحم بها خصمه.
وأقول:إن السلوك الناهض في ميدان الحوار يجب أن يعود الفرد نفسه عليه بقمع هذه النزعة الذاتية في نفسه.الحوار النهضوي هو أشبه بحوار المهندسين والعمال في ورشة حين يواجهون مشكلة عملية ويرغبون بإخلاص في إيجاد أحسن حل لها،فهم يتعاونون وهدفهم إيجاد الحل وليس إثبات مهارة الذات في الجدل أو أن الذات "أذكى" أو "أشطر"!
ومن عيوبنا أننا في حوارنا لا نسمع الآخر حقاً وللتأكد أدعو القارئ العزيز لمراقبة أي حوار يحضره،فسيرى أن المحاور غالباً ما يتابع ما بدأ قوله رغم أن محاوره جاء للتو بمعلومات يعيد هو ذكرها غير منتبه إلى أنها قيلت من الطرف الآخر!
-قبول أن يكون الآخر على حق والإقرار بأننا على خطأ إذا ثبت لنا هذا!
وكم قال الأسلاف إن "الرجوع عن الخطأ فضيلة"!وما أكثر ما نعاند ونركب رؤوسنا ولا نقر بالخطأ!
-التنازل عن الكرامة الزائفة تجاه إخوتنا وعدم تقديم التناقضات الثانوية معهم على التناقضات الرئيسية:
هذا مع الأسف العيب الذي يوجد عندنا من أصغر وحدة اقتصادية أو سياسية إلى مستوى زعماء دولنا:نحن لا نغفر لأخينا زلة!ولسنا مستعدين للتنازل عن كرامتنا الزائفة حياله،بل لا بد لحربنا الداخلية معه أن تصل لمستوى تكسير العظام!وما أكثر ما يترافق هذا مع الخضوع الذليل للعدو الخارجي،واتباع "سياسة مرنة" معه،وحتىقبول شتى الإهانات منه!
-رفض النزول عن بعض المكتسبات الأنانية لأخينا،ومعاملته بكل دقة حسابية "شايلوكية" بمقابل الكرم الحاتمي مع غيره!
وانظروا الأمثلة في التشديد الهائل الذي نراه في التعاملات الاقتصادية بين أقطارنا:الجمرك موجود يراعى بدقة في وجه البضائع الشقيقة،العمالة يفضل أن تكون من غير الأقطار الشقيقة! و وهذا بالتناقض مع كل منطق ديمغرافي أو تربوي لكي لا نذكر المنطق العقائدي!

ج-سلوك هوأقل من الشهادة بكثير:هل أنت قادر عليه!

صحيح أننا نشهد في السنوات الأخيرة مستوى من البطولة عند شبابنا في فلسطين خصوصاً لا يكاد يكون له مثيل في تاريخ الشعوب.
وهذا المستوى من روح التضحية بالنفس أشاع فكرة يحسن بنا الوقوف معها بصورة نقدية،وهي تقول إن الحل للنهوض من الكبوة المخزية لا يكون بأقل من الشهادة!
ثمة لحظات تاريخية فاصلة تحتاج فيها المجتمعات حقاً إلى أبطال أفذاذ مستعدين أن يضحوا بحياتهم في سبيل العقيدة أو الهدف العام.وهذا موجود حتى على مستوى الحياة اليومية فربما نحتاج إلى أولئك الشجعان ليقوموا بأعمال الإنقاذ الخطرة كما هو معلوم.
ولكن لنتوقف قليلاً ونقول: هل الشجاعة وحدها وروح التضحية تكفي حقاً للنهضة المطلوبة؟
ما قولكم بشباب على مستوى عال من القدرة على التضحية بالذات ولكنهم مع ذلك مستعدون "ليضحوا بذاتهم" في قتال داخلي بين التنظيمات المتنافسة(هذا رأيناه مراراً مع الأسف في الساحة الفلسطينية،وفي ساحات عديدة أخرى)
ثم إن الشهادة على جلالة قدرها التي لا ينكرها مؤمن تظل عاملاً من عوامل النهضة لا يكون مفيداً إلا في مواضع جزئية خاصة.
ولكن المطلوب لإنقاذ هذه الثقافة العظيمة نهضة حضارية اجتماعية شاملة!
والشرط لهذه النهضة هو في اعتقادي تحول السلوك في مجتمعنا إلى السلوك النهضوي الذي ذكرته،وهذا المطلب هو في الظاهر أقل صعوبة بكثير من الشهادة! فهل يا ترى نحن قادرون عليه؟
هل نستطيع فرض الوحدة في أقطارنا من الأسفل إذا كان "الكبار" مصرين على فرض الحدود بيننا وتأبيد تجزئتنا حتى النهاية؟
هل نستطيع أن نجاهد أنفسنا الجهاد الأكبر فنمنعها من السعي لخراب الشقيق وتدميره؟ونمنعها من الحسد الذي يجعلنا نسعى لعرقلة مواهب زميلنا في العمل؟ونتغاضى عن إساءة جارنا ونحاول استمالته بالحسنى لنحقق معاً جماعة محلية متكافلة؟
وما أكثر الأمثلة من هذا النوع،ولا تستصغروها، فصدقوني ها هنا يكمن الحل إن أراد الله أن يكون حل!
الرد مع إقتباس