عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 20-09-2006, 08:06 PM
أبو إيهاب أبو إيهاب غير متصل
مشرف
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2004
المشاركات: 1,234
إفتراضي

(2)



بل لقد اشترى بعض المسلمين النقود الفرنسية من الإغريق لكي يوزِّعوها بسخاء على الصليبيين المعوزين، فكان البون شاسعًا بين المعاملة الرحيمة التي لقيها الصليبيون من المسلمين وبين المعاملة السيئة التي لاقوها من أبناء دينهم الإغريق وما عانوه من قسوتهم، حتى إن كثيرًا منهم دخلوا دينَ منقذيهم بمحض إرادتهم، وبلغ عدد هؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام من الصليبيين أكثر من ثلاثة آلاف.

لعل هذه الأمثلة التاريخية التي تؤيدها الوثائق، والتي جعلت الغالبين يدخلون إلى الإسلام عن رضًى أكبر دليل على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وإنما انتشر بقوة العقيدة وكمالها، وتشبُّع النفوس بها، واقتناع أولي الألباب بأنها الحق من رب العالمين.

وكيف يمكن أن يكون انتشار الإسلام بالسيف، والمؤرِّخون يذكرون لنا أنه حتى نهاية القرن الهجري الأول كان عدد المسلمين في البلاد المفتوحة لا يزيد على الثلثين، ولو كان السيف أداةَ نشر الدين لما بقي واحدٌ من سكان تلك البلاد على غير الإسلام بعد مائة سنة من الزمان، بل لما بقِي في بلاد المسلمين الآن مواطنٌ واحدٌ لا يتخذ الإسلام دينًا.

لم ينتشر الإسلام بالسيف إذن، وإنما انتشر بقوة عقيدته وعمق إيمان الناس بعدالتها، وإلا فكيف يفسَّر دخول مئات الملايين فيه من أهالي الهند والصين والملايو وجاوة وجزء الهند الشرقية وإفريقية الوسطى؟! بل كيف آمن به الملايين المنتشرون في روسيا وبولندا ولتوانيا في شمال أوروبا، ثم مدينة الكاب وغينيا التي يحتلها الأوروبيون؟! هل وصلت سيوف المسلمين إلى تلك المناطق؟! لم يقل بذلك عاقل أو مجنون!!

لقد دخل الإسلام إلى تلك البلاد عن طريق الدعاة المسلمين المجرَّدين من أي سلاح إلا سلاح السماحة والإيمان، فدخل الناس عن طريقهم في دين الله أفواجًا، إنه في الوقت الذي كان المسلمون يذبَّحون في أسبانيا ويُصنع بهم من ألوان الاضطهاد ما لم يَسمع به التاريخ من قبل.. في ذلك الوقت كان يقتل فيه في الأندلس كلُّ من يقول "لا إله إلا الله محمد رسول الله" حتى أُجلي الإسلامُ وحضارةُ الإسلام عن أسبانيا، كان الإسلام نفسه يكسب أرضًا جديدة ومسلمين جُدُدًا في سومطرة والملايو، وشتان الفرق إذن بين تعصّب يقتل المسلمين في أرضهم، وسماحة تجذب المواطنين في غير أرض الإسلام إلى الإسلام.

ربما يظنُّ ظانٌّ أن ما أُنزل بالمسلمين في الأندلس من حيف وتقتيل كان نتيجةً لتعصب سابق أو ظلم أوقعوه على الأسبان، أو إجبار لهم على اعتناق الإسلام، ولكن التاريخ لم يسجِّل حادثةً واحدةً من هذا القبيل، فلم يحدث أن اضطَّهد المسلمون سكان أسبانيا أو أجبروهم على اعتناق الإسلام وقت الفتح، بل كانت سياستُهم كلها تسامحًا وعطفًا، بل إن المسلمين قد شيَّدوا للرهبان والراهبات أديارًا جديدةً تهيَّأ فيها لهم الأمن والطمأنينة، وكان الرهبان يستطيعون أن يخرجوا على المَلأ بألبستهم الدينية، وتقلَّد بعضُهم المناصب العالية في البلاط، وهكذا رعى الإسلام المسيحيين في الأندلس وحافظ عليهم، ولم تحدث حالةُ اضطهاد ديني واحدة.. هكذا انتشر الإسلام في الأندلس بغير ضجَّة ولا سيف، وإنما بالسماحة والرفق والاقتناع، وهكذا خرج الإسلام من الأندلس يسبح في بحار دافقة من دماء أبنائه بسيوف متعصبة ظالمة.

ولا يختلف الأمر في دخوله القسطنطينية عنه في دخوله الأندلس، فلم يُرغم القائد التركي أحدًا على اعتناق الإسلام، بل نَشَر العدل وأقام صروحَه، وأمَّن الناس على حياتهم، ونحن لا نستقي ذلك من مؤرِّخي المسلمين، بل من مؤرِّخ بيزنطي شاهَد سقوط القسطنطينية يتحدث عن بايزيد، وكيف كان رحب الصدر، كريم الخلق مع رعاياه المسيحيين، وكيف جعلهم يألفونه ألفةً تامةً بأن سمح لهم بالتردد على مجلسه في حرية كاملة، وكيف أن مرادًا الثاني اشتهر بتحقيق العدل وإصلاح المفاسد التي سادت في عهد الأباطرة الإغريق، لقد كان يعاقب في غير هوادة أيَّ موظف من موظفيه يَثبت أنه استبدَّ بأي فرد من أفراد رعيته.

لم يتدخل الترك المسلمون في عقيدة رعاياهم من المسيحيين، ولم يحاولوا نشرَ الإسلام بالسيف، يشهد بذلك بطريق أنطاكية "مكاريوس" الذي يقول من حديث طويل له يلعن فيه البولنديون الكاثوليك، ويُحصي ضحاياهم من الأرثوذوكس بعدد يتراوح بين سبعين وثمانين ألفًا من القتلى: "أدام الله بقاء دولة الترك خالدةً إلى الأبد؛ فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأنَ لهم بالأديان، سواءٌ أكان رعاياهم مسيحيين أم ناصريين، يهودًا أم سامرة.. أما هؤلاء البولنديون الملاعين فلم يقنعوا بأخْذ الضرائب والعشور من إخوان المسيح، بالرغم من أنهم يقومون بخدمتهم عن طِيب خاطر، بل وضعوهم تحت سلطة اليهود الظالمين أعداء المسيح الذين لم يسمحوا لهم حتى بأن يبنوا الكنائس، ولا بأن يتركوا لهم قُسُسًا يعرفون أسرار دينهم".

في ظل هذه السماحة المطلقة دخل رعايا الكنيسة الشرقية إلى الإسلام دون ترغيب أو تهديد، بغير سيف ولا رمح، ولكن أعجبتهم شريعته السهلة البعيدة عن التعقيدات، فكان لهم بمثابة المهرب من التعقيدات التي خلقتها الهرطقة البوليشية فدخل الإسلامَ أقوامٌ كثيرون من ألبان وبوسنة وصرب.

وما يقال عن انتشار الإسلام في أوروبا يقال عنه في آسيا، ففي فارس كان الكهنة الزرادشتيون قد تسلَّطوا على شئون الدولة المدنية غير مكتفين بنفوذهم الديني، واضطهدوا الديانات المخالفة لهم، من بوذيين ومانويين ومسيحيين ويهود وصابئة، وما إن جاء المسلمون إلى تلك البلاد حتى ضمنوا الحرية الدينية لكل فرقة من هذه الفرق، وعاملوهم جميعًا معاملةَ أهل الكتاب، مكتفين بأخذ الجزية منهم، وشيئًا فشيئًا بدأت الجماعاتُ من سكان المدن خاصة ترحِّب بالإسلام دينًا، وتعتنقه في حماسةٍ كبيرةٍ، وكان في مقدمة هؤلاء جميعًا أصحابُ الحرف والعمَّال بمختلف طبقاتهم، ارتضَوا الدين الجديد لصفائه وخلوِّه من المعتقدات الوثنية التي بدَت كريهةً في أنظارهم؛ نظرًا لسفاهة طقوسها، واستبداد رجال الدين القوَّامين عليها.

وإذا كان بعض سكان شمال الهند دخلوا الإسلام خشيةً أو خوفًا في إبان بعض الغزوات المتأخرة، فإن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بجنوب الهند، الذي أسلم الملايين من سكانه نتيجةَ علاقاتٍ وديةٍ وتقدير واحترام نشأت بين التجَّار المسلمين الذين تزاحموا في تلك المنطقة وبين الحكام الهنود الذين أُعجبوا بأخلاق المسلمين ومعاملاتهم وطرُق تعبُّدهم، ولا شكَّ أنه كان للرخاء الذي عمَّ على هذه المنطقة نتيجةً لنشاط العرب وإقبالهم على شراء منتجات هذه البلاد أثرٌ كبيرٌ في ربط أواصر المودة بين السكان والمسلمين، الأمر الذي ساعد على انتشار الدين الإسلامي دون أن يدخل هذه المناطق سيفٌ واحدٌ.

وقد لعب رجل عظيم اسمه خواجه معين الدين خشتي دورًا كبيرًا في نشر الإسلام في الهند بالطرق السلمية التي تعتمد على الإقناع والموعظة الحسنة، وإنا لنسمع عن دعاة كثيرين آخرين نذَروا أنفسهم لنشر الدعوة الإسلامية في الهند، فكان السدادُ رائدَهم وأسلم على أيديهم الملايين في أنحاء شبه القارة الهندية وما يحيط بها من جزر، من هؤلاء نادر شاه المتوفَّى سنة 969هـ/ 1039م، وسيد إبراهيم شهيد، وشاه عبد الحميد سنة 1600م، والشيخ يوسف شمس الدين، وممبا ملايكا، وغيرهم كثيرون، لا نستطيع أن نُحصي أعمالهم في هذه الصفحات القليلة.

ولقد دخل الإسلام إلى الملايو وجاوة وسومطرة وبورنيو وسيلبيس والفلبين وغيرها من هذه المناطق بالدعوة والتبشير دون سفك قطرة دم واحدة، دخلَها عن طريق التجَّار المسلمين الذين اتصلوا بالسكان اتصالَ المودة والنسب، وكانوا في نفس الوقت يبشرون بدينهم، أو عن طريق الدعاة الذين نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام، وكان الناس يقبلون عليهم في يُسْرِ، ويعتنقون الدين الجديد ويؤمنون به في وقت قصير، وفي أحيان كثيرة كان الداعي إذا أقنع الملك بالإسلام قام الملك نفسه ودعا وزراءه ورعيتَه إلى العقيدة الجديدة، فيسارعون إلى الاستجابة في أقصر وقت وأسرعه.

ومن تلك القصص الطريفة قصة إسلام ملك قويده في شبه جزيرة الملايو، فقد وصل إلى تلك المملكة سنة 1501م عالم عربي يُدعَى الشيخ عبد الله، وزار الراجه (الملك) وسأل عن ديانة البلاد، فأجابه الراجه: ديني ودين رعيتي كلها هو الذي وصل إلينا من الشعب القديم، ونحن جميعًا نعبد الأصنام، فقال الشيخ، أما سمعتم جلالتكم عن الإسلام والقرآن الذي أنزله الله على محمد ونسَخ به كلَّ الديانات الأخرى وتركها في حوزة الشيطان؟!

وظل الشيخ يشرح للراجه تعاليم الإسلام- وكان ذا بشاشة ولباقة- حتى اقتنع الملك بكلامه، وما لبث أن أحضر جميع الأصنام التي في القصر فجمعت في أكوام بعضها من الذهب، وبعضها من الفضة، وبعضها من الطين أو الخشب، وأُلقيت على الأرض وأحرقت، وبعد إيمان الملك آمَن بعده أهل بيته، ثم وزراؤه، ثم بقية رعيته الذين جمعوا كل الأصنام التي كانت في حوزتهم وأُحرقت جميعها وأصبحت رمادًا تذروه الرياح، وأقبلوا على الإسلام تعلُّمًا والبِشر يعمُّهم والفرح يملأ جوانحهم، ولم يكتف الملك باعتناق الإسلام، بل غيَّر اسمه من "برا أونج مها وانجسا" إلى اسم إسلامي هو "مزلف الشاه" ثم بُنِيت المساجد في المناطق الآهلة بالسكان، بهذه الطرق السلمية والوسائل الإقناعية انتشر الإسلام في أقطار آسيا وجزرها.

وأما اعتناق الأفريقيين للإسلام فقد تم أيضًا عن طريق الدعاة والتجَّار، ولقد لقي الدعاة المسلمون لدى الزنوج كثيرًا من الإدراك والتقبُّل حين كانوا يحدِّثونهم عن الحقائق المتعلقة بالله والإنسان، هذا فضلاً عن أن الدين الإسلامي دين الفطرة والبساطة، ولذلك كان الأفريقيون يُقبلون على اعتناقه؛ باعتباره لا يفرق بين الأبيض والأسود، على حين أن رجال الإرساليات الأوروبيين لم ينجحوا في شدهم إلى رباط المسيحية؛ لأن الأفريقي السود المنتصر كان يحسُّ في قرارة نفسِه أن أبناء دينه من الأوروبيين ينتمون إلى جنسٍ ولونٍ وحضارةٍ لا ينتمي هو إليها، وكان يحس بذلك الفرق الذي يؤرِّق نفسه ويؤلم إنسانيته.

ويعلل بعض الكتَّاب الأوروبيين سرعة انجذاب الزنجي إلى الإسلام فيقول: إن الدخول في الإسلام لا يستلزم أن يفقد الواحد قوميته، ولا يستلزم تغييراتٍ انقلابيةً في الحياة الاجتماعية، ولا يقوض نفوذ الأسرة أو سلطة الجماعة، وليست هناك هوَّةٌ بين الداعي إلى الإسلام والمتحوِّل إليه، فكلاهما متساوٍ ومع الآخر، لا نظريًّا بل عمليًّا أمام الله، وكلاهما ينفِّذ مبدأ التآخي تنفيذًا عمليًّا، والإسلام يمنح هؤلاء الذين يتصلون به منزلةً أرقى وفكرةً أسمى عن مكانة الإنسان في العالم المحيط به، ويحرِّره من ربق ألف عام من الأوهام الخرافية.

هكذا انتشر الإسلام في أفريقية انتشار النور في الظلمة، أقبل عليه الأفريقيون وهم يعتبرونه دينَهم الطبيعيَّ بشهادة الكتَّاب الأوروبيين أنفسهم، بغير ضربة سيف أو طلقة بندقية، وكذلك بيَّنا كيف انتشر الإسلام في بقاع الأرض، لم يفرض نفسه بالقوة ولكن فرض نفسَه بسماحته وقربه إلى النفس البشرية، التي رأت فيه أنه يربط بينها وبين الله، ويهديها سبيل الرشاد والهداية في الدنيا، وطريق النور والنجاة في الآخرة.