عرض مشاركة مفردة
  #34  
قديم 14-03-2007, 06:00 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(25)


تكتسي الكائنات الحية التي تشاركنا المملكة الحيوانية (ضمن التصنيف المتعارف عليه) بريش أو شعر أو صوف يغطي أجسادها.. وعندما نحاول تذكرها أو النظر إليها فلا نستطيع تمييزها بوضوح عن بعضها ضمن الصنف والنوع الذي ينتمي له كل فرد من أفراد تلك المملكة .. فهذه بطة وهذا خروف وهذه زرافة الخ .

انفرد الإنسان من دون الكائنات تلك بتغليف نفسه بكساء يستر عورته أولا ويحقق له بعض المنافع الأخرى كاتقاء البرد وغيره ثانيا .. وقد بدأ بوضع قطعة من جلد لم يتم إزالة الصوف أو الشعر عنها، على أمكنة قرر هو بوحي من خالقه أنه من الواجب عليه تغطيتها .. ثم تطور هذا الدافع لتتأسس عليه اليوم مدارس في صناعة الأزياء و الملابس .. وقد تجاوز الإنسان الفكرة الأساسية منذ زمن في تغطية ما يجب تغطيته، حتى أصبح اليوم دور أزياء للكلاب وغيرها من الحيوانات، التي قرر الإنسان أن يتولى كسوتها ..

لو عدنا للتصنيف السابق لحاجات الإنسان (الحدية والرمزية و الإستيطيقية) فإن الكساء في أولى مراحله لم يلق اهتماما بنوعية الجلد أو القماش أو شكل التفصيل، بل كان يراعي النقطة الأساسية في ستر العورة واتقاء عوامل الجو، ثم تطورت الأمور بعد أن علم إدريس عليه السلام أو (هرمس) كما تطلق عليه الثقافات الأخرى غير العربية والإسلامية، الخياطة والنسيج للناس .. فكانت الموضة ( الزي ) يستمر عدة قرون دون تغيير يذكر .. لا كما يحدث في أيامنا هذه، أن تكون لكل فصل (موضة) ..

في العتيقة تلك القرية التي اختفت من الذاكرة، كانت العينة التطورية للأزياء فيها آتية من المرحلة الأولى من الحاجات وهي الحدية مع تجاوز بسيط للمرحلة التي بعدها، وهي الرمزية. فكنت ترى جمهرة من نساء عن بعد، فيتراءى لك أنك تنظر لقوارير (شامبو) من النسخة الأولى لصناعة هذا المخترع .. فترى أجساما أسطوانية يعتليها تشكيل يقصد منه التأشير أن هنا يوجد (رأس) .. وعندما يمشين، فإنه يخيل إليك أن كائنات من فصيل البطريق أكبر حجما وجدت في تلك المنطقة .. علما بأنه لم يكن لنا عهد بمعرفة (البطريق)..

إن الملابس تلزم من يلبسها بسلوك من نوع يتماشى مع هيئة الملبس، وليتأمل أحدنا اليوم من يلبس (الدشداشة) أو القفطان، ويعتمر غطاءا لرأسه، ويضع فوق الغطاء (عقالا)، فإن حركته ستأخذ طابعا معينا، لا يميل للعنف والحركات الرشيقة لكي لا يسقط (عقاله) أو تنشب أطراف ثيابه الطويلة في بروز أو نتوء ما من حوله فيسقط أرضا، أو تتمزق ثيابه، فلذلك يتعود هؤلاء على الهدوء في الكلام وعدم استفزاز الآخرين، والتوصل لحلول وسطى في كل مشاكلهم مع الآخرين. لذلك كان ولا يزال يطلق على من يلبس هذا النمط من الملابس صفة (العاقل) .. هل لأنه لا يميل للعنف .. أم لأنه يضع (العقال) على رأسه؟

كان الناس في العتيقة، لديهم خياط واحد للرجال وخياطة واحدة للنساء، وكانت مواسم شراء (الكسوة) تلي مواسم الانتهاء من البيادر أي استخراج الحبوب من المزروعات، وهي عادة تكون في نهاية الصيف .. فيذهب رب الأسرة الى التاجر ويقول له : اقطع لي كذا ذراعا من قماش كذا وكذا .. وكانت العلامات التجارية للأقمشة محفوظة عن ظهر قلب لدى الناس .. فأقمشة ( حبر، ومارونس، والمخمل ) لثياب النساء الخارجية، و (الربيعي و الموهير) للملابس الداخلية لهن. في حين كانت أنواع القماش للرجال (كلمنظا، ومنصوري، والبوبلين، والجوخ) .. ثم دخلت أقمشة مثل (البرلون و التركال) وغيرها ..
كان على المكتسي ذكرا كان أم أنثى، أن يراعي أن كساءه هذا لطوال العام، ومن يدري، فقد لا يأتي الموسم الزراعي القادم جيدا، فعلى الجميع التهيؤ للبقاء في تلك الملابس (حولا) آخرا .. وعلى النساء أن تجتهد في (ترقيع) ما تلف من تلك الملابس أو التوجه لتصغير ملابس آخرين قد ضاقت عليهم ملابسهم وهي نادرا ما تحدث كون معظم الملابس فضفاضة تستوعب أي زيادة بالوزن حتى لو كان الضعف، أو أن صاحب الملابس قد توفى، وتسمى تلك العملية ب(التقييف) وهي مأخوذة من (قيافة) أي الهيئة النهائية للشكل ..

كما تقوم النساء في غزل صوف الأغنام وعمل منه (كنزات) يلبسها المحظوظون في الشتاء.. إضافة لعمل (الدامر) وهو لباس أقرب الى (الجاكيت) تلبسه النساء و الرجال .. وإن كان الرجال يلبسون (فراء) من جلود الخراف، لا زال تفصيلها يحمل نفس الشكل منذ أيام (الظاهر بيبرس) حتى اليوم..

في الأحذية، كان الرجال يلبسون (مداسا) والمداس يبدو أنه مشتق من داس على الأرض .. والنساء يلبسن (الوطية) واسمها اشتق من وطئ الأرض، وفلان (واطي) أي منحط .. أما الأطفال فكانوا يشترون لهم (شوز) وأكيد اسمه ليس بالعربي .. وكان من قماش وله أرضية من المطاط ، كان على الطفل أن يحرص أن يحافظ على حذاءه لمدة عام، لكن نادرا، ما كان يوفق أي طفل في الإيفاء بوعده .. فبعد عدة شهور سيبرز إبهام قدمه من مقدمة الشوز .. وسيواجه الطفل عقوبة معينة أقلها التوبيخ مع البصاق في وجهه.

لم يكن أهل العتيقة ينفردون بهذه الكآبة الكسائية .. فقد ذكر لي أحدهم وقد عين مدرسا في منطقة تبعد 200كم عن العتيقة .. أن أهالي تلك المناطق ينظرون لأهل العتيقة بعيون حاسدة للرخاء الذي ينعمون به!

فقال: لقد طلبت من أحد التلاميذ أن يخرج الى اللوح (الصبورة) ليحل مسألة، فعندما حلها بجدارة، لاحظت أنه حافي القدمين، فسأله عن السبب فقهقه كل التلاميذ الذي تبين أنهم كلهم حفاة .. فكافأته بشراء (شبشب) كي يلبسه، فكان يربط الشبشب بخيط ويعلقه على رقبته، في حين يرجو منه بعض التلاميذ أن يضعه في قدمه ويسير بضع خطوات ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس