الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
  #10  
قديم 22-02-2006, 05:26 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(9)

كعادتهم ، لم يكن أهل الريف يطيلوا السهر ، لعدم توفر الكهرباء ، ولطبيعة أعمالهم التي تقتضي نهوضهم باكرا في الصباح ، ولاستنزافهم القصص التي يمكن أن يتداولونها في أمسياتهم الرتيبة ..

كان أبو سليم يمسك بملقط يحرك به الجمر في الموقد الذي يحيط به أخواه وابن عمه وولدين من أولادهم . وكون أحلامهم محدودة ولا تتجاوز أن يكون موسمهم جيدا ، فلم يتمرنوا حتى على أحلام كبرى ، لقد كان أحدهم اذا أراد أن يبالغ في وصف شيء انبهر به ، فانه يكتفي بالتركيز على اسم ذلك الشيء ، كأن يقول (والله قمح جاب فلان ، يصمت ويضيف : قمح ) .. أو والله حياة يعيشها أهل الشام .. حياة ..

كنت تشعر بتعابير حواجبهم الكثة و لحاهم البيضاء ، وصمتهم المدروس بعناية المران و التكرار ، ببلاغة لا يستطيع الأدباء استخدامها حتى لو اجتهدوا .

رغم قصر فترة السهرة ، فإن أبو سليم كان يبتدع بعض الحيل القليلة ، لتمضيتها ، طالما أنه لا جديد هناك لرفد مواضيع السهرة ، فكان يمهد الرماد في الموقد الذي أمامه بواسطة علبة التبغ المعدنية المصقولة التي كان يحتفظ بالتبغ داخلها ، فيسحبها جيئة وذهابا عدة مرات ، حتى يصبح سطح الرماد ناعما وممهدا وجاهزا لخط بعض أحلامه المتطاولة .

ولا تدري ما الذي يجعله يرسم تلك المربعات المتلاصقة ، هل هو استعادة لتكوين صورة رآها في مدينة ، وبنى عليها أفكارا ، تصف حالة أهل المدن المتنعمين ، أم هي حالة التعطش لتوفير حجرات ، حيث كانت ندرتها تشكل شاغلا مستمرا لأهل الأرياف ..

كان الجالسون يراقبونه ، بعدم اهتمام ، لتكرر تلك الحالة بين فترة و أخرى ، ويتقاعسوا عن الاستفسار عما يقوم به ، وان لم يسأله أحد عما يقوم به فإنه يتطوع لتفسير تلك الطلاسم أو الأحلام بكلام لم يكن متوافقا مع صوته أو حركة حاجبيه ..

كان الفارق بين عمره وعمر ابنه سليم يزيد عن خمس وخمسين عاما ، لفقدانه أبناءه بسبب أمراض الحصبة التي كانت تفني معظم المواليد ..

ذهب الى مكتب ابنه المهندس سليم ، ولم يكن سليم موجودا في المكتب ، فدخل وجلس بغرفته الرئيسة ، وكانت السكرتيرة و الرسامون والمهندسون الآخرون قد تعودوا على زياراته المتكررة ..

دخل الغرفة ، طبيب عام وتبعه محامي ، وبعد ذلك دخل ضابط من الشرطة ، سلموا على بعض ، وتعارفوا ، و أبو سليم يشاغلهم بقصص قصيرة ، لم ينتبهوا لها كثيرا ، فكان يمجد لهم من خلال قصصه بمهارات ابنه سليم كمهندس لا ينافسه بتلك المهارات ، أي شخص آخر ، فكانوا يبتسمون من باب المجاملة و يذكرون صفات طيبة لإبنه من باب المجاملة أو ضرورة سياق الحديث ..

كان هؤلاء قد تواعدوا في المكتب للخروج كلجنة انتدبتها محكمة البداية لفض خصومة بين أخوين في إحدى القرى ، وهم ينتظرون المهندس للخروج للوقوف على مكان الخصومة ..

كان أحد أعضاء اللجنة يسأل الطبيب عن مسألة ، بعدما تم التعارف ، وأحس بأن هناك ما قد يساعدهم على قتل وقت الانتظار . فكما هي عادة المنتظرين ، ينساب الكلام منهم دون تخطيط مسبق ، ولكنه كالماء يسيل مع أي انحدار ، فان لم يجد المنتظرون ما يتحدثون به ، عندها قد تشفع لهم لفافة تبغ أشعلها أحد المنتظرين ، لتتحول الى حديث ، أو صوت طريف من نغمة هاتف خلوي ، فتصبح حديثا وهكذا ..

دخل سليم بوجهه المبتسم ، وطريقته السريعة ، في التخلص من واجب الاعتذار عن تأخره ، والتفت نحو والده ، وحياه تحية ، فهم الآخرون من خلالها أنه يبلغهم بضرورة تجاوز ما قد يكونوا سمعوا منه .. وهب الجميع لينطلقوا الى مكان الكشف ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس