الموضوع: الكاتب وظله
عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 17-08-2000, 07:04 PM
عبدربه عبدربه غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2000
المشاركات: 282
Post

أعتذر عن التأخر في نشر التتمة لأسباب خارجة عن إرادتي :
"ستقول أشكال الكتابة تاريخها ، على ألسنة النقاد ، وهم أيضا صفوف مصفوفة من ظلال تبحث عن أجسادها ، أو أن الأجساد هي التي تبحث عن الظلال . أما أشكال الكتابة في الكتابة فهي لا تقال ، وإنما تجسد ، كما جسد أحد فناني عصر النهضة أبواب الجنة ، وكما جسد نص ألف ليلة وليلة شكل الأشكال،عبر الثابت (حكاية شهرزاد) والمتناسل (حكاية مجتمع برمته)،وكما تجسد تاريخ الحكي، من "الكوميديا الإلهية" و "دون كيخوطي دو لامانشا"،حيث ترسخ انفتاح شكل الكتابة على أشكال أخرى ممكنة،غدت تتخلق من المحاولات الدائمة،لارتياد عوالم وبناء فضاءات تخييلية لا نهاية لها.
إن التاريخ الأدبي،سواء أكان تاريخ أفراد هم الكتاب أنفسهم،أو تاريخ للأشكال،لن يزعزع من حقيقة أساسية مفادها أن الكتابة الأدبية،هي عالم تخييلي،أولا وقبل كل شيء،وهذا العالم،بما يحيل عليه من وقائع وأحداث وشخصيات معروفة،هو بؤرة للرموز الإنسانية،التي تكسر منطق الخاص نحو العام،وتذهب بالمحلي إلى الكوني،والكتاب الذين استوحوا بعض تجاربهم في الحياة،من أجل تفجيرها وإغنائها بمزيد من التفاصيل المتخيلة،قد سعوا إلى كتابة أعمال تمت إليهم بصلة،ولكنها لا تنتسب إليهم،بعامل الصلات المتعددة والمتنوعة مع الواقع والثقافة والوعي والتراث. عندما يريد الكاتب أن يكون شاهدا،عليه أن يكتب مقالة سياسية أو مذكرات أو بيانا من البيانات،وعندما يريد الكاتب للعمل الروائي،التخييلي،أن يكون شاهدا،فلا بد من الشهود،بزورهم ونفاقهم وتخاذلهم وجهرهم بالحقيقة،وسردهم لتفاصيل معيشة أو ملفقة عن موضوع الشهادة. ولا بد من ظل هارب يتبع ظلالا هاربة أخرى،ولا بد من غلالة شبحية تربك الحقائق ومن إغواء وإغراء.
أنا أكتب إذن أنا أقترب من بدء عالم أخذ يتشكل،وكيف يكتب الكاتب وهو ذاهل أمام ظله الهارب،يعيش أيامه وأعوامه هادئا (هدوءا ظاهريا) وهو عكر المزاج، يذهب من العمل إلى السوق،ومن البنك إلى مدرسة الأولاد،يأكل بغير شهية،ويتأرق،ويقرأ الكتب والجرائد،ويمارص بخذلان بيّن بعض الحضور في تجمعات لأصحابها مطامح ذاتية أكثر مما لها وظيفة إخصاب الفعل الجماعي ؟ كيف ؟ وكيف يستمع الكاتب إلى الأخبار،ويعلق على مشهد عابر،ويتذكر تاريخ المدن والأحداث،ويتوجع ويبتلع حبة مهدئ أو وجع الأضراس، ويجوس كل شيء،هنا وهناك،ويغضب ويثرثر وينسى النسيان،وكل ذلك لا يجعل من حياته الخاصة شيئا اسثنائيا،فكيف سيكتب ؟
الاستثنائي في الكاتب هو قدرته على الخيال،وعلى خلق تناسلات للمحكي والحكاية. وبهذين الحدين،يمكن لأنواع التمرين المواظبة أن تذهب نحو شحنات من المعاني،ونحو طاقات لغوية وأسلوبية خلاقة،في اتجاه تطويع ما يتأبى على المطاوعة.
ملاجظة ظل الكاتب الهارب،تأخذ إلى عوالم تأتي فيها شخصيات لا علاقة لها بحياة الكاتب الخاصة،اليهودي،المرابي،اللواطي،العاهرة،القاتل،الجن رال،المجنون،المتصوف،وهي كشخصيات تأتي من أزمنة وأمكنة بعيدة كل البعد عن زمن ومكان الكاتب،وحتى الشخصيات التي يفترض من خلال الحكاية أنها في زمانه ومكانه،فهي كائنات غير مستنسخة،لأنها باحثة عن وجودها الخاص في النص،الذي يختلف تماما عن وجودها في الواقع،حتى وإن كان ذلك الوجود محتملا.
الكاتب ليس جاسوسا،يتجسس على حياة الناس،ليجعل منهم أبطالا لقصصه ورواياته،وإنما هو مرصد،وذاكرة خصبة تحضر فيها لحظات وأشياء وأناس،وكل ذلك لن يشكل سوى مواد أولية للكتابة،إن كانت لها محفزاتها واستدعاءاتها ونداءاتها العميقة،وتلك المواد الأولية لا يمكن تشويش معالمها من أجل التضليل. ولكن تشويشات الكتابة،التي تقوم بها اللغة،ووسائط التعبير،هي من صميم فعل الكتابة.
يحيا الكاتب وسط أشباح عابرة،وأناس طيبين أو أشرار،وفي قلب الحياة نفسها،لا تبدو المظاهر سوى سطوح ملسة لفراغ فاقد للمعنى،وهذه الصورة عن الحياة،تتفاعل مع صورة أخرى تتصارع فيها المواقف وتتباين،وتحتد لغة الاحتجاج،وتتفاقم أنواع سوء التفاهم ،بين الناس،وبين الحكام والمحكومين،وبين الرجل والمرأة،وبين الكاتب وظله. تفاعل هاتين الصورتين،سوف يؤدي إلى جعل اللحظات و المواقف الاعتيادية لحظات رمزية،عبر قوة الكتابة وإيحاءاتها.
إلا أن ظل الكاتب،المسكون بالتوتر والترقب المشحون بتداخل الخيالات والرؤى،المغموس في مداد الكلمات،يظل راقصا رقصته الدموية،على طرف حبل أو على حد سكين،كما يظل هاربا أبدا،حتى وإن كان مثخنا بجراح اليومي،سئما من عاداته ، ويظل راتعا في مجال لليقظات ، وفي فضاءات ميثولوجيا الكتابة ، حيث يخلق شخوصا لم يرها الكاتب في حياته ، ولم يسمع حكاياتها ، ولم يستنسخها من الواقع ، حتى وإن كانت دماؤها من دم الواقع نفسه .
هل لظل كهذا بداية أو نهاية ؟ إنه يبدأ من جسد الكاتب ، ولكنه لا ينتمي إلى مكان محدد ، فالأماكن كلها تحت سطوته وسلطانه ، وما على الكاتب إلا أن يتخفى،حتى يتناسل الرمز في الواقع،والأسطورة من الذات الجماعية التي هي رحم الكتابة. وليبق اللحاق هو اللحاق،لحاق الكتاب وراء ظله. ولحاق القارئ وراء سراب اسمه الكاتب."
انتهى مقال "الكاتب وظله" لمحمد عز الدين التازي
الرد مع إقتباس