عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 21-12-2006, 10:56 AM
alaa_abes2 alaa_abes2 غير متصل
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2006
المشاركات: 96
إفتراضي

4 - التدرج في دعوة الناس:

في إحدى زياراته للصعيد اقترح أحد إخوان الصعيد (الأخ حسين عبد الرازق، وهو الأخ الأصغر للشيخ مصطفى عبد الرازق) أن يزور الأستاذ المرشد أحد الباشوات في المنطقة، واسمه لملوم باشا.



استأذنوه في الزيارةِ فأذن، وذهبوا في الموعدِ المحدد، وانتظروا في قاعةِ الانتظار بالقصر قرب الساعة، وهنا نزل الباشا إليهم يرفل في روبٍ من الحرير وتنبعث منه روائح العطور الفاخرة.. وبدأ الأستاذ البنا بالحديثِ عن عائلةِ لملوم ومكانتها في المجتمع، وأنها أعطتنا كثيرًا من العلماء النجباء، وأثنى ثناءً طيبًا على الخيرِ الذي تُقدِّمه عائلة لملوم لمجتمعها.. كان الباشا يستمع إلى الشيخِ سعيدًا ومنتعشًا.



ولما انتهى الشيخ من حديثه التفت إليه لملوم باشا قائلاً: إنني أحبُّ أن أصلي، ولكن أشعر بضيقٍ من هذا الوضوء الذي يسبق الصلاة، لقد انتظرتموني حتى نزلت، وكنت أثناء ذلك في حمامي الخاص الصباحي، فأنا أستحمُّ مرتين في اليوم: مرةً في الصباح ومرةً في المساء، فما ضرورة أن أتوضأ ما دمتُ نظيفًا؟



فقال له الأستاذ المرشد: لا تثريبَ عليك أن تصلي على هذه الحال، ولا تشغل نفسك بالوضوء، فزع الإخوان الذين كانوا في صحبةِ الأستاذ من هذا الرأي العجيب (ومنهم الأستاذ فريد عبد الخالق راوي القصة)، ولكن الأستاذ أشار إشارةً لهم ألا يخوضوا في الأمر، وانتظروا على مضضٍ حتى خرجوا.



وصاح الأستاذ فريد: ما هذا يا فضيلة المرشد، صلاة بغير وضوء!

قال له الأستاذ: يا فريد هذه ليست فتوى هذا علاج مؤقت.

يقول الأستاذ فريد: وبعد شهرٍ من هذا اللقاء وصل الأستاذ حسين عبد الرازق للقاهرة، واجتمعنا حوله، فسأله: ما أخبار الباشا لملوم؟ قال: ما شاء الله أصبح يتوضأ لكل صلاةٍ ويسبغ الوضوء، ويُقيم معظم صلواته في المسجدِ القريب من قصره، لقد تغيَّر الباشا تمامًا، وأصبح إنسانًا غير الذي كنا نعرف، وهو دائمًا يذكر زيارة الأستاذ البنا له، ويثني عليه كثيرًا.



انظر- رحمك الله- إلى هذا الداعية المُوفَّق عندما يقول: هذه ليست فتوى، وإنما هو علاج.
والعلاج يحتاج إلى طبيبٍ حاذق، ولا يحتاج إلى متحذلقٍ يحمل فوق ظهره أسفارًا.



5- لين الجانب والتبسط الراشد:

في الأربعينيات كان الأستاذ فؤاد الخطيب يدرس في الجامعة في القاهرة، وكان أبوه يعمل سفيرًا للسعودية في مصر.. تعلَّق الأستاذ فؤاد بالأستاذ البنا وأصبح من الناشطين في الجامعة، وأراد الأستاذ فؤاد أن لا يحرم من هذا الخير زملاءه من الطلبة السعوديين، فدعاهم يومًا للغداء، ودعا الأستاذ البنا معهم.. وقبل أن يصل الأستاذ البنا ظلَّ هؤلاء الطلاب يمزحون مع فؤاد حول شيخه القادم، ويطلقون النكات على المشايخ عمومًا، ومنهم شيخنا البنا، ويبدو أنهم لم يكونوا قد رأوه من قبل فتصوروه شيخًا كبيرًا، وعلى رأسه عمامة ضخمة، وتُحيط به جبة واسعة، وقفطان مزركش.



ثم بدا لفؤاد أن ينزل لشراء بعض الأغراض، وللمصادفة يصل الأستاذ البنا في غياب فؤاد، وكان يلبس بنطلونًا وقميصًا، وتبدو عليه الفتوة والنشاط، فلم يظنوا للحظة واحدة أنَّ هذا الرجل هو الشيخ الذي ينتظرونه، واستمروا يمطرون المشايخ بوابلٍ من النكاتِ المضحكة، والشيخ يضحك معهم ويشاركهم في مزاحهم، وبينما هم كذلك إذْ وصل فؤاد. وقال: أستاذنا فضيلة المرشد.



فصمت الضاحكون فجأةً، وقالوا في صوتٍ واحد: الأستاذ البنا.. معذرةً يا أستاذ تصورناك غير ذلك، ولكنَّ الأستاذَ طمأنهم بكلامٍ جميلٍ عن فوائدِ الفكاهةِ البريئة، وأنَّ الضحكَ ليس جريمة.. المهم خرج من الموقفِ بسلاسةٍ حضاريةٍ غريبة، ثم بدأ بعد ذلك طريقه إلى قلوبهم وعقولهم ليحملوا معه هَمَّ العمل الحضاري عندما يعودون إلى بلادهم.. يقول الأستاذ فؤاد الخطيب (عليه رحمة الله): إنَّ هذه المجموعة أصبحت فيما بعد أعمدة بناء الدولة الحديثة في السعودية، بما فيهم الأستاذ فؤاد الذي تعرفتُ عليه بعد أن أصبح سفيرًا لبلاده في بلدان كثيرة.



الملاحظة هنا أنه بدأ من واقعِ الناس، وبمهارةٍ فائقةٍ قادهم إلى الهَمِّ العام وحمَّلهم مسئولياته، سواء انضموا إلى تنظيمه، أو عملوا موازيًا لهذا التنظييم.




الأستاذ البنا مع مجموعة من الإخوان

وتحضرني في نفس الاتجاه قصة رواها الدكتور سعيد رمضان في إحدى خواطره في مجلة "المسلمون".. يقول الدكتور سعيد: إن الأستاذ البنا ذهب في رحلةٍ دعويةٍ إلى قرية العزيزية بالشرقية، وكان القوم يحتفلون بذكرى القطب الصوفي الكبير الحسن الشاذلي، ودعوه للمشاركة.. وفي كلمته ظل يتحدث عن الإمام الشاذلي، ويردد أذكاره وأوراده حتى وصل إلى دعاء الشاذلي الذي يقول: "اللهم ارزقنا الموتة المطهرة".



وهنا سأل الأستاذ البنا سامعيه: أتدرون ما الموتة المطهرة؟ ثم صمت دقيقة، والناس معلقة أبصارهم صاغية قلوبهم إلى إجابة البنا، ومن هنا بدأ يصوغ قلوبهم في طريقِ دعوته، وظل يحدثهم عن الموتة المطهرة دفاعًا عن العرضِ والمال والمقدسات، وقتالاً في سبيل الله.. وخرج بهم من الآفاقِ الضيقةِ التي كانوا يعيشون فيها إلى آفاق حضارية متعددة، يقول الدكتور سعيد (عليه رحمة الله): وما غادر البنا العزيزية حتى بايعته عن بكرةِ أبيها.
مرةً أخرى تتجلى عبقريةِ البنا في الخروجِ بالناس من مواقعهم إلى مواقع المسئولية الحضارية ببساطة مذهلة.. رحم الله الأستاذ الإمام.