عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 02-10-2003, 08:40 PM
البارجة البارجة غير متصل
دكتوراة -علوم اسلامية
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
المشاركات: 228
إفتراضي

إن للحوار قواعده وآدابه؛ ولعل من أبرز هذه القواعد والآداب ما ورد في سورة سبأ. كان الرسول محمد يحاور غير المؤمنين شارحًا ومبيِّنًا ومبلِّغًا. ولكنهم كان يصرُّون على أن الحق إلى جانبهم؛ فحسم الحوار معهم على قاعدة النص: "وإنَّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" (سورة سبأ، الآية 24). لقد وضع الرسول نفسه في مستوى من يحاور، تاركًا الحكم لله؛ وهو أسمى تعبير عن احترام حرية الآخر في الاختيار، وعن احترام اختياره، حتى ولو كان على خطأ. وذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال القرآن الكريم في الآية التالية مباشرة: "قُلْ لا تُسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون." فكان من آداب الحوار – بل من المبالغة في هذه الآداب – أن وصف اختياره للحق – وهو على حق – بأنه "إجرام" (في نظرهم)؛ ووصف اختيارهم للباطل – وهم على باطل – بأنه مجرد "عمل". ثم ترك الحكم لله: "قل يجمع بيننا ربنا، ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتَّاح العليم." إن احترام حرية الاختيار هنا ليس احترامًا للخطأ. فتسفيه وجهة نظر الآخر ومحاولة إسقاطها ليسا الهدف الذي لا يكون الحوار مُجدِيًا إلا إذا تحقَّق.

إن من أهداف الحوار تعريف الآخر على وجهة نظر لا يعرفها، ومحاولة إقناعه بالتي هي أحسن بموقف يُنكِرُه أو يتنكَّر له – وهو أمرٌ يشكِّل، في حدِّ ذاته، أحد أهم عناصر الاحتكاك الفكري والتكامل الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس. ومن دون ذلك يركد الذهن ويُفقَد التعطشُ إلى المعرفة عودَ الثقاب الذي يلهبه، وتتحولُ مساحاتُ الفكر إلى بحيرات آسنة. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: "ولولا دفعُ الله الناس بعضُهم ببعض لفَسُدَتْ الأرض" (سورة البقرة، الآية 251). إن الاختلاف بين الناس، وما يشكِّل الاختلاف من تَدافُع، يشكِّلان أحد أهم موجبات عدم فساد الأرض.

هناك فوارق كثيرة بين علاقة الإرادة وعلاقة الفرض: العلاقة الأولى هي نتيجة حوار وثمرة تفاهم، وهي، بالتالي، فعل إرادي تحقق المحبة والاحترام والثقة؛ أما العلاقة الثانية فهي حال تنكُّر لحقِّ الآخر وتجاهُل لتمايُزاته ولخصائصه، وتجاوزٍ للحوار كوسيلة لفهمه وللتفاهم معه، وهي، بالتالي، حالٌ مفروضة. وكلُّ ما هو مفروض مرفوض من حيث المبدأ، ومن حيث الأساس؛ ولذلك فإنها لا تحقق سوى البغضاء والكراهية وعدم الثقة.

أرسى مجتمع المدينة المنوَّرة في عهد النبي محمد قاعدة لإقامة نَسَقٍ تعاوني بين فئات الناس، من مؤمنين وأهل كتاب، في أمة واحدة. الوثيقة النبوية أقرَّتْ أصحاب الآراء على آرائهم وتكفَّلتْ بحمايتهم كما هم. قام مجتمع المدينة على قاعدة نشر الدعوة مع احتضان الاختلاف، وليس مع تجاهله ولا مع محاولة إلغائه.

حاور النبي نصارى نجران في بيته في المدينة المنورة وأحْسَنَ وفادتهم. وعندما حان وقت صلاتهم، لم يجد النبي أيَّ غضاضة في دعوتهم، كما تذكر رواياتُ ثقة، إلى أداء صلاتهم. إن العقيدة، في الإسلام، تستقرُّ بالفكر اختيارًا ولا تُلْصَقُ باللسان قهرًا وإجبارًا. والقرآن الكريم يقول "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة، الآية 256) – والـ"لا" هنا نافية وليست ناهية؛ أي أنها لا تعني "لا تكرهوا الناس في الدين"، ولكنها تعني أن الدين لا يكتمل، وهو لا يكون أساسًا، بالإكراه.

على قاعدة هذه السابقة النبوية في دولة المدينة الأولى فإن الإسلام لا يضيق بتنوع الانتماء العَقَدي، ولا يؤمن بالنقاء العرقي ("لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى"). فإذا كان التنوع من طبيعة تكوين المجتمع فإن الحوار هو الطريق الوحيد الذي يؤدِّي بالاختيار الحرِّ وبالمحبة إلى الوفاق والتفاهم والوحدة. ذلك أن البديل عن الحوار هو القطيعة والانكفاء على الذات وتطوير ثقافة الحذر والشك والعداء للآخر.

إن من مقومات الحضارة العربية–الإسلامية احترام الآخر والانفتاح عليه والتكامل معه، وليس تجاهله أو إلغاؤه أو تذويبه. ويشهد تعدد الأقليات الدينية والإثنية في العالم الإسلامي، ومحافظة هذه الأقليات على خصائصها العنصرية، وعلى تراثها العَقَدي والديني، وعلى لغاتها وثقافاتها الخاصة، على هذه الحقيقة وأصالتها. إن اعتراف الإسلام بالآخر، ومحاورته بالتي هي أحسن، وقبوله كما هو، لا يعود بالضرورة إلى تسامح المسلمين، بل إلى سماحة الإسلام وإلى جوهر الشريعة الإسلامية.

فالحوار – كالصداقة – لا يولد بالضغط ولا بالترغيب. علينا (كما جاء في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني بشأن الحوار مع الإسلام) "أن نعمل تدريجيًّا على تغيير عقلية وذهنية إخوتنا المسيحيين لأن المهم بالنسبة إلينا، كما هو مهم بالنسبة للآخرين، محاولة اكتشاف الإنسان كما يعيش وكما يأمل أن يكون؛ ولا يهمُّنا الماضي بقدر ما يهمُّنا هذا الإنسان المتَّجه نحو آفاق المستقبل للحصول على عدالة أكثر، وحقيقة أكثر، وحبٍّ أكثر. هذا هو الرجل الذي يجب أن نعرف؛ ومع هذا الرجل فقط يمكن أن نشيد ونبني حوارًا أصيلاً وحقيقيًّا". ويستشهد النص الفاتيكاني بما قاله المستشرق ماسينيون من أنه "لكي نفهم الإنسان الآخر يجب أن لا نستولي عليه وندمجه فينا، بل يجب أن نكون ضيوفه".

إن للحوار أهدافًا مختلفة. فهو إما أن يكون وسيلة لتنفيس أزمة ولمنع انفجارها، وإما أن يكون سعيًا لاستباق وقوع الأزمة ولمنع تكوُّن أسبابها، وإما أن يكون محاولة لحلِّ أزمة قائمة ولاحتواء مضاعفاتها. في هذه الحالات الثلاث تكون مهمة الحوار هي العمل على:

1. إبراز الجوامع المشتركة في العقيدة والأخلاق والثقافة.

2. تعميق المصالح المشتركة في الإنماء والاقتصاد والمصالح.

3. توسيع مجالات التداخل في النشاطات الاجتماعية الأهلية (كالأندية الرياضية والجمعيات الكشفية والمؤسَّسات التعليمية والاستشفائية).

4. التأكيد على صدقية قيم الاعتدال وتوسيع قاعدتها التربوية.

5. إغناء الثقافة الحوارية التي تقوم على عدم رفض الآخر، والانفتاح على وجهة نظره واحترامها، وعدم التمترس وراء اجتهادات فكرية صدئة من خلال التعامل معها – أي مع هذه الاجتهادات – وكأنها مقدَّسات ثابتة غير قابلة لإعادة النظر.

التفاهم

إن أي حوار يستلزم، من حيث المبدأ، تحديدًا مسبقًا لأمرين أساسيين: الأمر الأول هو التفاهم على ماذا نتحاور؛ والأمر الآخر هو التفاهم لماذا نتحاور. أي أنه لا بدَّ من تحديد منطلقات الحوار وقواعده.

ينطلق الحوار من قواعد منطقية وعلمية تعتمد على الحجة والبرهان، ويتوسل الجدال بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة. فالله خاطب موسى بقوله: "اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولاً ليِّنًا لعله يتذكر أو يخشى" (سورة طه، الآيات 42-44). ويأمر باتباع الحكمة في الدعوة: "ومن أحسنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالَّتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم" (سورة فصلت، الآيتان 33-34).

وتأكيدًا لهذا المنهج ينهى الله المؤمنين عن اتباع أساليب السُّفهاء ومجاراتهم في السبِّ والتسفيه لمعتقدات الآخر: "ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عدوًّا بغير علم" (سورة الأنعام، الآية 108). و"لا بد لكي يبدأ الحوار أن يمتلك أطرافُه حرية الحركة الفكرية التي ترافقها ثقةُ الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا ينسحق أمام الآخر لما يحس فيه من العظمة والقوة التي يمتلكها الآخر، فتتضاءل إزاء ذلك ثقتُه بنفسه، وبالتالي، بفكره وقابليته لأن يكون طرفًا للحوار، فيتجمد ويتحول إلى صدى للأفكار التي يتلقَّاها من الآخر."[2]

لذلك أمر الله رسوله أن يحقق ذلك ويوفِّره لمحاوريه: "قُلْ إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ" (سورة الكهف، الآية 110)؛ "قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مَسَّني السوء إنْ أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون" (سورة الأعراف، الآية 188).

فإذا امتلك أطرافُ الحوار الحرية الكاملة فأوَّلُ ما يناقَش فيه هو المنهج الفكري – قبل المناقشة في طبيعة الفكر وتفاصيله – في محاولة لتعريفهم بالحقيقة التي غفلوا عنها، وهي أن القضايا الفكرية لا ترتبط بالقضايا الشخصية. فلكلٍّ مجالُه ولكلٍّ أصولُه التي ينطلق منها ويمتدُّ إليها: "وإذا قيل لهم اتِّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتَّبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقِلون شيئًا ولا يهتدون" (سورة البقرة، الآية 170).

كما لا بدَّ، لكي ينجح الحوار، من أن يتمَّ في الأجواء الهادئة ليبتعد التفكير فيها عن الأجواء الانفعالية التي تبتعد بالإنسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير. فإنه قد يخضع للجوِّ الاجتماعي ويستسلم لاشعوريًا، مما يُفقِدُه استقلالَه الفكري: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكَّروا ما بصاحبكم من جنة إنْ هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (سورة سبأ، الآية 46). فاعتبر القرآن اتهام النبي بالجنون خاضعًا للجوِّ الانفعالي العدائي لخصومه، لذلك دعاهم إلى الانفصال عن هذا الجو والتفكير بانفراد وهدوء.[3]

والمنهج القرآني في الحوار يرشد إلى إنهائه بمهمة وأداء رسالة يبقى أثرها في الضمير، إن لم يظهر أثرُها في الفكر؛ إنه أسلوب لا يسيء إلى الخصم، بل يؤكد حريته واستقلاليته، ويقوده إلى موقع المسؤولية، ليتحرك الجميع في إطارها وينطلقوا منها ومعها في أكثر من مجال".[4]

إن في ثقافة الحوار في الإسلام آدابًا وقيمًا ومنهجًا أخلاقيًّا يحترم الإنسان وحريَّته في الاختيار، كما يحترم حقَّه في الاختلاف وفي المجادلة. وفي النتيجة أن "من اهتدى فلنفسه، ومن ضلَّ فعليها وما ربك بظلام للعبيد
__________________
البارجة هي استاذة فلسفة علوم اسلامية ,
إلى الكتاب و الباحثين
1- نرجو من الكاتب الإسلامي أن يحاسب نفسه قبل أن يخط أي كلمة، و أن يتصور أمامه حالة المسلمين و ما هم عليه من تفرق أدى بهم إلى حضيض البؤس و الشقاء، و ما نتج عن تسمم الأفكار من آثار تساعد على انتشار اللادينية و الإلحاد.

2- و نرجو من الباحث المحقق- إن شاء الكتابة عن أية طائفة من الطوائف الإسلامية – أن يتحري الحقيقة في الكلام عن عقائدها – و ألا يعتمد إلا على المراجع المعتبرة عندها، و أن يتجنب الأخذ بالشائعات و تحميل وزرها لمن تبرأ منها، و ألا يأخذ معتقداتها من مخالفيها.

3- و نرجو من الذين يحبون أن يجادلوا عن آرائهم أو مذاهبهم أن يكون جدالهم بالتي هى أحسن، و ألا يجرحوا شعور غيرهم، حتى يمهدوا لهم سبيل الاطلاع على ما يكتبون، فإن ذلك أولى بهم، و أجدى عليهم، و أحفظ للمودة بينهم و بين إخوانهم.

4-من المعروف أن (سياسة الحكم و الحكام) كثيرا ما تدخلت قديما في الشئون الدينية، فأفسدت الدين و أثارت الخلافات لا لشىء إلا لصالح الحاكمين و تثبيتا لأقدامهم، و أنهم سخروا – مع الأسف – بعض الأقلام في هذه الأغراض، و قد ذهب الحكام و انقرضوا، بيد أن آثار الأقلام لا تزال باقية، تؤثر في العقول أثرها، و تعمل عملها، فعلينا أن نقدر ذلك، و أن نأخذ الأمر فيه بمنتهى الحذر و الحيطة.

و على الجملة نرجو ألا يأخذ أحد القلم، إلا و هو يحسب حساب العقول المستنيرة، و يقدم مصلحة الإسلام و المسلمين على كل اعتبار.

6- العمل على جمع كلمة أرباب المذاهب الإسلامية (الطوائف الإسلامية) الذين باعدت بينهم آراء لا تمس العقائد التي يجب الإيمان