عرض مشاركة مفردة
  #16  
قديم 01-08-2006, 03:46 AM
حق وعدل حق وعدل غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2006
المشاركات: 138
إفتراضي

الباب الثاني
مقدمات شرعية


الحكم الشرعي لا يمكن معرفته إلا بفهمين: معرفة الواقع ومعرفة حكم الله تعالى فيه، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولايتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما:فهم الواقع فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات، حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر) (إعلام الموقعين 1/87 - 88)، وكما قال ابن تيمية عندما سئل عن حكم التتار، فبيّن أن الحكم الشرعي مبني على أصلين أحدهما: المعرفة بحالهم، والثاني: معرفة حكم الله في أمثالهم (مجموعة الفتاوى 28/544). وكذا قال الشاطبي في الموافقات (ج4/165) فله كلام رائع راجعه هناك، ولقد كنانظن أن إحجام طلبة العلم وأهله عن إصدار الحكم الشرعي في حق النظام السعودي هو بسبب عدم معرفتهم بالشق الأول (فهم الواقع) وذلك بسبب تلبيس النظام عليهم، بتزوير حقيقته وطمسها بمجموعة من المحسّنات الظاهرة، فكان دورنا منصبّاً في كشف هذه الممارسات والسياسات التي يجهلها طلبة العلم، وقد أجمع العلماء على وجوب كشف المنافقين والمبتدعين، أنظر فتاوى ابن تيمية (28/233). وقد سئل الإمام أحمد: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف، فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل، (السابق). ومع أن مجتمع الجزيرة العربية قد كثر فيه طلبة العلم إلا أن انشغالهم بالعلم وطلبه أبعدهم عن معرفة الواقع وحقيقته، وهذا قد يقع من طلبة العلم وأهله كما نبّه جماعة من السلف والعلماء على ذلك، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في مواطن من الفتاوى، إلا أننا اكتشفنا أن كثيراً من أهل العلم وطلبته قد أحجموا عن تنزيل حكم الله تعالى على هذا الواقع، وأسباب هذا الإحجام متفاوتة، فهناك مجموعة منهم رضيت لنفسها مقام التقليد، حيث تنتظر من غيرها هذا التنزيل لتكون التالية، لا السابقة في هذه الفضيلة، وهناك من يخاف الأثر المترتب على هذا التنزيل، ويزعم أن نشر حكم الله تعالى في النظام سيؤدي إلى فتنة لا تدرى نتائجها، وكأن هذا الصنف ظن أن معرفة حكم الله تعالى «شر» فلابدّ من ستره وتغييبه، وفي هؤلاء يقول محمد بن وضاح رحمه الله تعالى في كتابه «البدع والنهي عنها»، (ص59): (إنما هلكت بنو إسرائيل على أيدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على أيدي قرائها وفقهائها) أهـ. وحكم الله تعالى فيه النجاة والسعادة حقيقة.

يقول العلامة الشيخ الإمام سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله، كما هو في «الدرر السنية»: [فلو اقتتلت البادية والحاضرة، حتى يذهبوا، لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتاً، يحكم بخلاف شريعة الإسلام، التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم!]، وقد صدق، قدس الله سره، فإنه ما خلق الخلق إلا للعبودية، التي هي التذلل والخضوع والطاعة والاتباع لأحكام الشرع المنزل، فإذا ظهر الكفر البواح، ولم تعد كلمة الله هي العليا، وحكم الطاغوت، فزوالهم، بل زوال الدنيا كلها، أهون من الرضا بذلك، الذي هو الكفر المؤدي إلى اللعنة الأبدية، والنار السرمدية. أما الأكل، والشرب، والنكاح، ورغد العيش الدنيوي فإنما خلقت له البهائم!

وقال في موضع آخر: [فلو ذهبت دنياك كلها، لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها، ولو اضطرك مضطر، وخيرك بين أن تحاكم إلى الطاغوت، أو أن تبذل دنياك، لوجب عليك البذل، ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت، والله أعلم]، وقال في موضع ثالث راداً على من زعم أنه يتحاكم إلى الطاغوت خوفاً من أن يعتدي بعض الناس على بعض، وأن يقتل بعضهم بعضاً (أي خشية «الفتنة» على حد تعبير ابن باز، وأضرابه): [يظهر فساد هذه الشبهة الشيطانية بتقرير ثلاثة مقامات، المقام الأول: أن الفساد الواقع في الأرض، من قتل النفوس، ونهب الأموال إنما هو بسبب إضاعة أوامر الله، وارتكاب نواهيه، كما قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} ... إلخ].

والجدير بالذكر أن الشيخ سعد بن عتيق، رحمه الله، كان، كعامة المشيخة النجدية، مغتراً بالملك عبد العزيز آل سعود، طاغوت الجزيرة الأسبق، في أول الأمر، غير أن الثقات أخبرونا: أنه ما مات حتى تبين له عمالة عبد العزيز للكفار، وتبديله للشرائع، فندم على نصرته له في مواجهة «الإخوان»، وتبرأ منه، ويقال أنه كتب رسالة قيمة (ما زالت مخطوطة طبعاً) في تكفيره، ولكنها لم تقع لنا مع طول البحث. وهذا هو حال العلماء، ورثة الأنبياء، بحق: الرجوع إلى الحق عند بيانه، فرحمه الله رحمة واسعة، ورفع درجته في الصديقين!

وعلى ضوء هذا فإننا نجد أننا ملزمون بالحديث بشكل تفصيلي عن حقيقة النظام، وحكم الله تعالى فيه، وأين هو في دين الله تعالى؟ وما هو موقف الأمة منه وكيف تتعامل معه؟ أي ملزمون بالحديث عن كلا الشقين: الواقع، والشرع.

وقبل الشروع في هذه الأمور، لابدّ من تحديد بعض الثوابت والمقدمات حتى لا يلتبس الحال أو تفهم الأمور على غير محلها، هذه المقدمات هي:

أولاً: أننا لا نقبل حكماً ولا اعتقاداً إلا بدليل شرعي، والدليل الشرعي عندنا هو الكتاب والسنة، وهما ميسران للذكر بلسان عربي مبين، حفظ ونقل لنا نقل التواتر، وما عداه فليس بحجة في ذاته، بل هو محتاج بنفسه إلى دليل. وكل ما هو خارج الكتاب والسنة فهو رأي، والرأي يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه، وعلى الرغم من أن هذا الكلام يبدو أمراً لا جدال حوله، إلا أنه في الحقيقة في عداد المهجور رغم ترداد العلماء له بألسنتهم، وترى كثيراً منهم يرفع شعار [كل ما هو خارج النص فهو رأي والرأي ليس بملزم]. ثم تجدهم عند التطبيق يتعاملون مع آراء أهل الفتوى والقضاء وكأنها دين يجب التزامه، ويعتبرون الخروج على هذه الآراء معصية، بل معصية كبيرة، بل تراهم يضربون بأدلة الشرع عرض الحائط، ويستدلون بحجج واهية داحضة، وشبهات شيطانية خاسئة، كقولهم: [نحن أحسن من غيرنا]، أو كقولهم: [لا تعكروا علينا الأمن والأمان ورغد العيش]، وهذا يلجئهم إلى تصيد الأقوال الساقطة الشاذة التي لا تمت إلى الدليل الشرعي بصلة، وذلك لتبرير أفعال النظام السعودي، وغيره، وإسباغ الشرعية عليه بطريقة لا تقبل من طالب علم فضلاً عن العلماء، كموقف بعضهم من الربا المستعر المنتشر في البلاد، طولاً وعرضاَ، وغريب أمر هؤلاء يتمسكون بالنصوص الشرعية في قضايا الحيض والنفاس وزكاة الفطر، ويعرضون عن الحكم الشرعي في قضايا كالجبال في السياسة والحكم والقضاء، هذه القضايا التي تمسّ الأمة بأجمعها!

ثانياً: أن الحكم على النظام ليس حكماً على أفراده ورجاله، ولكنه حكم على النظام كله، كنظام حكم، وذلك بغض النظر عن أفراد وأعيان كل واحد فيه، وقد يعود الحكم العام على بعض أفراده، ولكن هذا لا يلزم أن يعود على جميع أفراده، وهذا أمر معروف لدى طلبة العلم (أنظر مجموع الفتاوى 28/505). فنحن ها هنا لا نتكلم عن أفراد وشخوص، ولكننا نتكلم عن حكم النظام وموقعه من الإسلام، فلا يعترض على كلامنا بوجود بعض أهل الاستقامة فيه، ثمّ لا يقال بعد ذلك ما حكم فلان أو غيره من رجال النظام، لأننا نتحدث عن هذا الكيان كله، ومقدار قربه وبعده عن الشريعة، أي أننا نتكلم عن النظام بوصفه «شخصية معنوية».

ومعلوم أن الطوائف الحاكمة تعامل في دين الله تعالى معاملة عامة بحسب ما اجتمعت عليه، بغض النظر عن أفرادها (أنظر الأحكام السلطانية للماوردي ص55، 56، والفتاوى لشيخ الإسلام 28/349).

ثالثاً: حكم الله تعالى في نازلة من النوازل لا يؤخذ من دليل واحد، وقد وجد غيره، فلا بدّ من إعمال الأدلة الواردة في المسألة جميعها، والذين يأخذون ببعض النصوص دون غيرها هم أهل البدع، وأغلب أهل البدع أخذوا بعض النصوص وردوا الباقي، كما هو شأن الجبرية والخوارج، وأما أهل السنة حقاً فهم أهل الهدى، وسبيلهم إعمال النصوص جميعاً دون إهمال لواحد منها، وذلك بعد ثبوت صحتها، ونقول هذا الأمر لما نرى من تجاهل البعض لبعض الأحاديث النبوية الشريفة في سعيهم الشديد للدفاع عن النظام والحكام. فلماذا توضع الأيدي على حديث: «لتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً»، لحجبه ومنع اطلاع الناس عليه، على طريقة «الحبر» اليهودي الذي وضع يده على آية الرجم في التوراة. ولماذا يعرض عن أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه الأحاديث النبوية نصوص يوافق بعضها بعضاً، ولابد من استحضارها في مجال البحث عن موقف المسلم من الحاكم، كائناً من كان هذا الحاكم.

رابعاً: دين الله تعالى، دين شامل، لا يخرج عن هيمنته شيء من شؤون الدنيا والآخرة، فرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي علمنا كيفية الأكل والشرب بل ما هو أدق منهما، لا يعقل أن يترك للناس ما هو من عظائم الأمور كشؤون السياسة والحكم، فيتلاعب بها الحكام تحت دعوى الضرورة السياسية، أو تحت دعوى المصلحة الموهومة. ولذلك من اعتقد أن للحاكم الحق في إصدار التشريعات والقوانين التي تخالف دين الله تعالى، ثم أوجب على الناس التزامها هو بلا شك كافر مرتد، كما قرر أهل العلم، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى: [إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم وجوب الطاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، كيف لا؟ وهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويسعون في الأرض فساداً بقولهم وفعلهم وتأييدهم، ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفّرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لوكان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم]، (الرسائل الشخصية ص188). ولذلك يجب عرض كل شؤون الحكم والقضاء وأنظمة الاقتصاد والعلاقات الخارجية والشؤون الداخلية على الشرع، ولا يخرج عن الشرع شيء منها ومن ادعى أن شيئاً من ذلك هو بيد الحاكم، ولا سلطان للشرع عليه، فهو كافر ملعون، خارج من الملّة.

خامساً: إن معرفة حكم الله تعالى في النظام والحكم هو أمر واجب، لما يترتب عليه من قضايا هي من صميم الإيمان والتوحيد، أما ما يترتب على ذلك من أحكام عملية فهذا باب آخر يتعلق بالقدرة والإعداد واستكمال الشروط وانتفاء الموانع، لكن يلزم وجوب بيان حقائق الإسلام جميعها، وأركان التوحيد كلها، حتى تتميز الصفوف ولا تشتبه المفاهيم والرايات، فالبيان هو عهد الله إلينا: {لتبيننّه للناس ولا تكتمونه}، ومحاولة كتم الحق فيما يتعلق بأهم مسائل الدين تحت أي دعوى مسألة مرفوضة، كمحاولة الإرهاب الفكري الذي يمارسه بعض الشيوخ والعلماء بقولهم إن كشف حقائق الحكام يؤدي إلى الخروج والفتنة، فهذا أمر مرفوض، لأن الفتنة العظمى هي كتم الحق وتزويره وليس بيانه.

بعد هذه الثوابت والمقدمات نقول: إن معرفة حكم الله تعالى في الحكم والنظام مناطها ومرجعها إلى معرفة قيام الحكم بالواجبات التي فرضها الله عليه، فالإمامة إنما شرعت في الإسلام لتحقيق مقاصد شرعية ضرورية ومهمة. هذه الواجبات والمقاصد هي التي نريد أن نستعرضها ثم نتعرف على أداء النظام السعودي لنرى قربه وبعده عن هذه الواجبات والمقاصد، فهل النظام حقاً قام بما أمره الله به؟ أم أنه تتبع هذه الأوامر فنقضها الواحدة تلو الأخرى، وأتى على ضدها رعاية وصيانة وحماية ؟

إن مقاصد الشريعة لا تتحقق إلا بتطبيق الحكم الشرعي، ورأس الحكم الشرعي هو إقامة الحكم بما أنزل الله ونبذ ما سواه، ثم قيام النظام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل في الأحكام والقضاء، وإقامة شعائر الإسلام الظاهرة ورعايتها، والتعامل مع رعيته وغيرهم على أساس الحكم الشرعي، وحفظ المال العام، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع وغيرها مما هو مذكور في كتب السياسة الشرعية.