عرض مشاركة مفردة
  #23  
قديم 06-07-2005, 09:47 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]

فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى أن المسلمين أصبحوا في حالة لا يحتملون معها مواصلة القتال ففاوض الكفار على أن يدفع لهم مالاً وانتهت المفاوضات إلى موافقتهم، ولكنه قبل أن يوقّع كتاب الصلح رأى من استشارة السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة أن المسلمين في طاقتهم أن يحتملوا مواصلة الحرب فعدل وأعاد الرسل وقال لهم: ارجعوا ليس لكم إلاّ السيف. وهذا يعني أنه مع أن الأصل أن الكفار يدفعون الجزية ولكن إذا رأت الدولة أن الظرف يقتضي أن يدفع المسلمون الجزية فإنه يجوز أن يراعوا الظرف ويدفعوا الجزية للدول الكافرة. فهذه كلها وقائع تدل على أن الحكم الذي وُضع لمشكلة وكان صالحاً في وقت قد تُرك وجُعل للمشكلة حكم آخر مكانه لاختلاف الوضع الذي فيه الدولة. فهذا وإن كان يظهر منه أنه مسايرة للزمن ولكنه في الحقيقة سير مع الحكم الشرعي وليس مسايرة للزمن. ولذلك لا يجوز أن يغير الحكم إلاّ إذا كان له دليل شرعي يجيز تغييره ووضع حكم آخر للمشكلة بدله. ولذلك فإن المسلمين في حالة الضعف يجوز أن تدفع الدولة مالاً للدول الكافرة، ولكنه لا يجوز لها أن تجعل للدولة الكافرة قواعد أو مطارات عسكرية في أراضيها لأن هذا يجعل سلطاناً للكفار على جزء من أراضي الدولة وهذا لا يجوز. وكذلك لا يجوز لها أن تعقد معاهدات حدود فتلتزم بأن تكون حدودها موضع كذا لأنه يعني وقف الجهاد، ولكنه يجوز أن تلتزم احترام الجوار مدة معينة لا مطلقاً من غير تحديد مدة. وهكذا فإنه يجوز اختلاف المعاملات في العلاقات الدولية باختلاف الظروف ولكن حسب الحكم الشرعي ولا يحل الخروج عنه مطلقاً.

وإن أرادوا بمسايرة الزمن وضع سياسة تتفق مع متطلبات العصر، فهذا جائز لأنه اختيار لمباح من المباحات، فالسياسة فعالية مؤثرة في الممكنات لتحويلها إلى الوضع الذي نريده نحن ما دام ذلك داخلاً بالممكن أي ليس بالمستحيل، وهو بالطبع يعني المباحات. فقد تختار الدولة سياسة الحرب وقد تختار سياسة الأعمال السياسية. أي قد تضع الدولة مخططات القيام بالحرب فعلاً فتكون في حالة تأهب دائم وتجيب على كل مناورة سياسية بالاستعداد الفعلي لخوض الحرب والدخول في معارك. وقد تضع الدولة مخططات للقيام بأعمال سياسية بإيجاد مشاكل للعدو متصلة الحلقات لا يكاد يخرج من مشكلة إلاّ ويقع في مشكلة أخرى، وتكون مُعِدّة لذلك القوة الهائلة حتى تكون جريئة على خلق المشاكل للعدو ودفعه إليها، حتى إذا بادأها العدو بالحرب أعادت له الضربة ضربتين. فهاتان سياستان مباحتان، فالدولة حين ترى أن الزمن يقتضي إحداهما ولا يقتضي الأخرى تكون ظاهراً قد سايرت الزمن ولكن الحقيقة أنها اختارت الفعل المباح الذي يقتضيه الزمن.

وهكذا فمسألة مسايرة الزمن حين توضح مشاكل الزمن يذهب منها الغموض، وحين يعيّن مدلول كل مشكلة وموقف الحكم الشرعي منها يذهب منها الإبهام. وعلى ذلك فإنه يمكن أن يقال إن الشريعة الإسلامية تساير الزمن إذا قُصد أنها في نصوصها العامة يمكن مواجهة كل مشكلة في أي زمن وإيجاد حل لها فهي تساير الزمن. وإذا قُصد أنها تتسامح بأحكامها مراعاة للزمن فإنها بهذا المعنى لا تساير الزمن.

على أن المسألة في مسايرة الزمن سواء في السياسة أو التشريع إنّما هي فيما يسمى بالواقعية العملية، فالناس الواقعيون العمليون يسايرون الزمن قطعاً حتى ولو كانوا من أشد المحافظين على القديم لأنه قديم، والناس غير الواقعيين وغير العمليين لا يمكن أن يثبتوا في مستوى عال في كل زمن بل يجمدون وتصيبهم الحيرة. ولا يوجد في الدنيا أخطر على التشريع وعلى السياسة من الفروض النظرية والقضايا المنطقية، فإنها تسبب الضرر الفاحش بل تسبب الخطأ والضلال. فإن السياسة والتشريع يعالج كل منهما واقعاً محسوساً وأمراً من أمور العمران. ولكل واقع ظروفه وأحواله فيجب أن يُستبعد تجريده منها استبعاداً تاماً، ويجب مراعاة الظروف الخاصة بالنسبة لكل واقع، وبالنسبة لكل أمر بمفرده، ولذلك يجب استبعاد التعميم والتجريد في السياسة والتشريع، فلا يقاس شيء من أحوال العمران على آخر لمجرد الاشتباه، إذ يجوز أن يحصل الاشتباه في أمر ويكون الاختلاف واقعاً في أمور متعددة.

ومن أخطر الأمور على السياسة والتشريع استعمال القياس الشمولي. أمّا التشريع ولا سيما التشريع الذي جاء به الوحي فهو أحكام لأفعال ولا ينطبق إلاّ على تلك الأفعال، ولذلك لا يقاس عليها لمجرد الشبه بل يعطى الحكم لها إن كانت واحداً من ذلك الجنس أو النوع لا إن كانت تشبهه، وإذا تضمن النص علّة فإنها تطبَّق فقط على جنس ذلك الوصف الذي هو العلّة لا على ما يشبهه. فإذا خرج الوضع عن ذلك فقد خرج عن أن يكون حكماً شرعياً مستنبَطاً من الدليل، لأن الدليل لا يدل عليه هو بل يدل على ما يشبهه، ولأن العلّة لا تدل عليه هو بل تدل على ما يشبهه. ولذلك قال بعض العلماء كالإمام ابن حزم بالأخذ بظواهر النصوص خشية أن يدخل تحت الحكم ما هو من غير جنسه ونوعه لمجرد الشبه أو أن يحمل النص خلاف ما يدل عليه لغة أو شرعاً. ولذلك أيضاً قال بعض العلماء كالإمام جعفر بمنع الأخذ بالقياس، إذ اعتبروا أن النصوص المعلَّلة جاءت علتها علامة عن الحكم، فالله قال هذا حكم كذا وهذه علامة حكم كذا، ولا يوجد في المسألة قياس. كل ذلك لِما للفروض النظرية والقضايا المنطقية من خطر يؤدي إلى الخطأ والضلال من جراء القياس المغلوط لمجرد الشبه.

أمّا السياسة فالأمر فيها أشد لأنها معالَجة أمور فردية قلّما يجتمع أمر مع أمر في كل شيء، ولكنها شديدة التعقيد، دقيقة الإدراك، متداخلة الحوادث، ولذلك إذا لم تُعتبر كل حادثة بمفردها وتعطى حكماً خاصاً بها فإنه لا يمكن أن يوصِل إلى الحقيقة إلاّ إذا كان صدفة، أي رمية من غير رام. وحينئذ يستغلق فهمها وبالتالي يقع الخطأ في العلاج. فلأجل أن يسايِر التشريع وتسايِر السياسة متطلبات كل زمن وحاجاته على أساس ثابت لا تكون فيه قابلية التغيير، لا بد أن تؤخذ الحوادث كلها حسب واقعها الذي هو عليه مئة بالمئة، ولا يقام أي وزن للتشابه بينها، وأن توضع الناحية العملية عند العلاج، أي أن هذا ممكن أو ليس ممكناً أي ليس هو مستحيلاً، فتُبعد الفروض النظرية وتُبعد القضايا المنطقية ويُستبعد التعميم والتجريد، ويُحذر من القياس المغلوط ولا سيما القياس الشمولي، وحينئذ يظل التشريع وتظل السياسة مزدهرتين أيما ازدهار. أو على حد تعبيرهم تظل الأمّة قادرة على مسايرة الزمن فتظل في كل زمن مقتعدة المكان المرموق في الموقف الدولي، بل مقتعدة مركز القيادة للأمم.

وقد يقال إن البلاد الإسلامية المترامية الأطراف وقد قُسمت إلى دول عديدة وقامت فيها دساتير مختلفة وقوانين متنوعة ومضى عليها أكثر من أربعين عاماً وهي تحكم بدساتير تناقض الإسلام وقوانين ليست أحكاماً شرعية بل كلها أنظمة كفر وأحكام كفر، فالصعوبة إن ذُللت بالنسبة لمسايرة الزمن فإنها باقية بالنسبة للدستور والقوانين، فلا بد من إعداد دستور للدولة الإسلامية يكون آخذاً بعين الاعتبار اختلاف الوقائع والأحوال والظروف في مختلف بلاد الإسلام، ولا بد من إعداد قوانين تعالج كل مشاكل العصر الحديث.

والجواب على ذلك هو أن الأساس إيجاد الثقة بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها قبل أن تُجمع هذه الأحكام دستوراً وقوانيناً. أي أن الأساس انبثاق هذه الأحكام الشرعية عن العقيدة التي يعتقدها المسلمون واعتبارها أنها أحكام جاء بها الوحي من عند الله. فإذا وُجد هذا الأساس فقد سَهُل وضع الدستور والقوانين. أي أنه لا بد من تركيز الأساس الذي تقوم عليه الدولة والجامعة التي تربط الأمّة كأمّة، أي لا بد من أن تُبعث الحياة في العقيدة الإسلامية أولاً باعتبار الأفكار والأحكام التي انبثقت عنها وحياً من الله جاء بها جبريل عليه السلام علاجاً لأفعال العباد لتحقيق السعادة لهم، فإذا وُجد هذا الاعتبار فقد وُجدت الدولة.

صحيح أن العقيدة الإسلامية موجودة عند الأمّة، والأمّة أمّة مسلمة وليست كافرة، ولكن هذه العقيدة فقدت علاقتها بأفكار الحياة وأنظمة التشريع، فغاضت منها الحيوية وصارت عقيدة جامدة بل عقيدة ميتة، ولم يعد لدى المسلمين ذلك الحافز الحاد الذي دفعهم لفتح الدنيا وحكم البشر ونشر الهدى وحمل لواء العدل والحق. بل إن هذه العقيدة فقدت النظرة إلى السماء وحصرت نظرتها في الأرض، فَقَدَت ذكر الله والتطلع إليه والاستعانة به، واتجهت نحو النظرة إلى الخلق واستمداد العون من البشر وأخذ القوة من المال، بل إن هذه العقيدة فقدت في نفوس المسلمين تصور يوم القيامة، فقدت الشوق إلى الجنة والحنين إلى نعيم الآخرة، فقدت المثل الأعلى وهو نوال رضوان الله، وحصرت همّها في متاع الدنيا، فصار شوقها إلى منزل ضخم ورياش ناعم ومركب فاره، وصار حنينها إلى متعة زائلة ونعيم بالمال والجاء والسلطان، وصار مثلها الأعلى تحقيق رغباتها المادية وإرضاء من بيدهم تحقيق هذه الرغبات.