الموضوع: لا أذود الطير!
عرض مشاركة مفردة
  #9  
قديم 14-12-2002, 05:03 PM
خشان خشان خشان خشان غير متصل
عضو قديم
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2000
المشاركات: 300
إفتراضي

هذه المناهج في تحليل النص، وفي دراسة الأدب لم يحددها الشيخ محمود شاكر، ولم يهاجم منهجا خاصا، ولم ينتصر لمنهج على آخر، شأن الكثيرين من كبار أدبائنا ونقادنا، ولكنه أعلن رفضه الصريح لكل المناهج الأدبية السائدة ويقول وهو يحث على ضرورة المنهج التطبيقي في تحليل النص بعد توثيق المادة وتمحيصها: «إن شطر التطبيق هو الميدان الفسيح الذي تصطرع فيه العقول، وتتناص الحجج. أي أن تأخذ الحجة بناصية الحجة كفعل المتصارعين، والذي تسمع فيه صليل الألسنة جهرة أو خفية، وفي حومته تتصادم الأفكار بالرفق مرة وبالعنف أخرى، وتختلف فيه الأنظار إختلافاً ساطعاً تارة، وخابياً تارة أخرى وتفترق فيه الدروب والطرق أو تتشابك أو تلتقي، هذه طبيعة هذا الميدان، وطبيعة النازليه من العلماء والأدباء والمفكرين، وعندئذ يمكن أن ينشأ ما يسمى «المناهج (2) والمذاهب». وهذا النص «الوثيقة» يفسر قناعة «محمود شاكر» بتعدد المناهج، وتسليمه بذلك، ويجعله بمنأى عن رفض الآخر، والانغلاق على الذات، ولكنه يرى أن لكل أمة منهجا وهوية وطريقة في تفكيرها وتحليلها واستنباطها، يقول مفسرا التناقض الظاهر بين إيمانه بتعددية المناهج وبين رفضه للسائد منها، وربطها بفساد الحياة الأدبية. «أعلم أن حديثي هنا هو الذي يسمى "المنهج الأدبي" على وجه التحديد أي : عن المنهج الذي يتناول الشعر والأدب بجميع أنواعه، والتاريخ وعلم الدين بفروعه المختلفة ، والفلسفة بمذاهبها المتضاربة، وكل ما هو صادر عن الإنسان إبانة عن نفسه وعن جماعته.. ووعاء ذلك ومستقره هو «اللغة واللسان لا غير»(3). وما تحدث به الشيخ هو الإطار العام للمنهج.. أما لب المنهج ووسائله الفاعلة المتشكلة من ثقافة أمتنا العربية والإسلامية،، فتتجلى في تحديده لها حيث يقول : إن الإحساس القديم المبهم المتصاعد بفساد الحياة الأدبية. قد أفضى بي إلى إعادة قراءة الشعر العربي كله أولا.ثم قراءة ما يقع تحت يدي من هذا الإرث العظيم الضخم المتنوع من تفسير وحديث وفقه، وأصول فقه، وأصول دين «هو علم الكلام» وملل ونحل «إلى بحر زاخر من الأدب والنقد والبلاغة والنحو واللغة، حتى قرأت الفلسفة القديمة والحساب القديم والجغرافية القديمة، وكتب النجوم، وصور الكواكب، والطب القديم، ومفردات الأدوية، وحتى قرأت البيزرة والبيطرة والفراسة. بل كل ما استطعت أن أقف عليه بحمد الله سبحانه، قرأت ما تيسر لي منه، لا للتمكن من هذه العلوم المختلفة، بل لكي ألاحظ وأتبين وأزيح الثرى عن الخبء المدفون»(4). إن هذه الرؤية الشاملة لثقافة الناقد الأدبي، ولكل من يواجه النص مواجهة تنطلق من الدراية وليس الرواية، تتكئ على الملاحظة والتدقيق، واستكشاف عناصر الإبداع في النص الأدبي، وجمالياته وأسسه وخصائصه الفنية وفق منظور عربي، لا يتصادم مع هوية الأمة ولا خصائصها وتسلمنا هذه الرؤية المنهجية إلى معالم المنهج الذي اختطه "محمود شاكر" في مواجهة النص وتحليله.(5) وهي مواجهة عميقة فاحصة متسلحة بالمعرفة المتآلفة مع الحس الإبداعي المرهف، والوهج الشعوري، والحدس الفني المدرك لما تحمله المفردة الشعرية من طاقات إحيائية، وما تبوح به التراكيب اللغوية من أسرار ومضامين ورموز، وحقائق وأحاسيس، تتراءى للشيخ كائنات حية متجسدة تبرهن عليها عبقرية اللغة وخبرة الناقد بأسرار العربية، ومعرفته المحيطة ببيئات الشعر، وأماكنه، وتاريخه، وتطوره، والفروق الدقيقة بين شاعر وشاعر، وقصيدة وقصيدة، وقد تجلت معالم المنهج التحليلي التذوقي لدى الشيخ في معرض مواجهته لقصيدة ابن أخت تأبط شرا. ويحدد معالم هذا المنهج الصعب.. والطريق المخيف.. إذ يقول: وأظنه صار بينا أو شبيهاً بالبين. «أن مدارسة قصيدة من القصائد (وقديم الشعر وحديثه في ذلك سواء) تحتاج أول كل شيء إلى تمثل القصيدة جملة. وتمثل أجزائها تفصيلا، تمثلا صحيحا أو مقاربا بدلالة جمهور ألفاظها على بنائها ومعناها. ثم تحتاج إلى تحديد معاني الألفاظ في موقعها من الكلام. ثم إلى ضبط الدلالات التي تدل عليها الألفاظ والتراكيب جميعا. ثم إلى تخليص ألفاظها وتراكيبها من شوائب الخطأ الذي يتورط فيه الشراح والنقاد. ثم إلى إزالة "الإيهام» الذي مرده إلى التهاون في تمييز فروق المعاني المشتركة بين الشعراء، إلى الغفلة في حذق الشعراء في استخدام الإسباغ والتعرية والتشعيث في الألفاظ والتراكيب».(6) وهذه الحيثيات الدقيقة في مدارسة النص.. هي البدايات حتى لا يضل الدارس الطريق الصحيح إلى فهم النص.. ثم تبدأ المواجهة بشواهدها المؤثرة ومنها : أولاً: ضرورة الوقوف على حقيقة قائل النص والتعرف على بيئته ومكونات ثقافته وينابيع هذه الثقافة، ومراميها القريبة والبعيدة.. ولأن الشيخ ينتصر للنقد التطبيقي القائم على تناص الحجج.. رأيناه يطبق هذا الشاهد من شواهد المنهج في جدية وتمحيص، حين خالف السائد الذي ينسب إلى تأبط شرا القصيدة التي حللها في كتابه "نمط صعب" فيناقش هذه النسبة في بدايات كتابه من ص 33-62، والمنهج التاريخي التوثيقي هو المسيطر في هذا المضمار، وهو أسلم المناهج في الوصول إلى ما يأمل الباحث من حقائق في مثل هذه القضايا. وقد رتب الشيخ رواة القصيدة ـ كلها أو بعضاً منها ـ مع تباين نسبتها وعددهم خمسة عشر راويا.. بداية من ابن هشام المتوفى سنة 218 هـ إلى البغدادي المتوفى 1093هـ، وقسم هؤلاء الرواة إلى خمسة أقسام، في نسبتهم القصيدة إلى قائلها.. وفي القسم الثاني حدد الرواة الذين نسبوها إلى "ابن أخت تأبط شرا" وهم «الجاحظ في الحيوان، وابن عبد ربه الأندلسي في العقد، والبكري الأندلسي في معجم ما استعجم، والتبريزي في شرح الحماسة، وهؤلاء لم يحددوا اسمه. وابن هشام في كتاب التيجان نسبها إلى أبن اخت تأبط شراً، وزعم أنه الهجال بن امرئ القيس الباهلي، وزعم البكري الأندلسي أنه "خفاف بن نضلة" في كتابه اللآلئ. وابن دريد، وابن بري، والبغدادي نسبوها إلى "الشنفرى» وزعموا أنه ابن أخت تأبط شراً. ويقول الشيخ.. مبينا أهمية هذا المعلم من معالم المنهج. وأول مشكلة معقدة تعرض : هي مشكلة نسبتها إلى صاحبها الذي هو صاحبها. ثم ينبه إلى أن الاستهانة بأمر نسبة الشعر إلى صاحبه مضر، لأنه يدخل الخلط والفساد في تمييز شاعر من شاعر، وفي الكشف عن خصائص بنية كل شاعر في شعره، ثم يقول "ولتحقيق النسبة خطر عظيم في أمر الشعراء المقلين، وفي أمر الشعراء أصحاب المفردات من القصائد ، لأن عبيد الشعر لهم مناهج غير مناهج الذين لم يقولوا الشعر إلا في مواقف بعينها، أثارتهم فانطلقوا يتغنون به، وغير مناهج المقلين أصحاب القصائد ذوات العدد". وتطبيقا لهذا المنهج في مواجهة النص.. ينعى محمود شاكر على "لويس عوض" عدم إحاطته بشخصية أبي العلاء وهو يحلل نصوصه. وقد وقع في ضلال كبير نتيجة لسوء الفهم.. وقلة التعمق في إدراك مرامي فكر أبي العلاء. وعدم تقصي مصادر ثقافته، والمؤثرات الحقيقية في أدبه. يقول أبوفهر «فالدارس ينبغي أن يكون قد ملك الأسباب التي تجعله أهلا لمعاناة المنهج" وهذا شيء يحسن ضرب المثل عليه لتوضيحه. فإذا اتخذنا شيخ المعرة مثلا موضحا. فدارسه ينبغي أن يكون مطبقا لقراءة نصوصه جميعا من نثر وشعر، لا من حيث هما لفظان مبهمان غامضان : نثر أو شعر، بل من حيث تضمنها ألفاظا دالة على المعاني، وألفاظا قد اختزنت على مر الدهور في استعمالها وتطورها قدرا كبيرا من نبض اللغة ونمائها الأدبي والفكري والعقلي، إلى كثير من الدلالات التي يعرفها الدارسون، ثم من حيث هي ألفاظ قد حملت سمات مميزة من ضمير قائلها بالضرورة الملزمة، لأنه إنسان مبين عن نفسه في هذه اللغة بما يسمى"شعرا" أو بما يسمى "نثراً"(7). وهناك دلائل متعددة فطن إليها "محمود شاكر" للتعرف على قائل النص، وقد أعمل خاطره وكد ذهنه. ومن هذه الدلائل: * الاعتماد على نسيج الشاعر وطريقته في صوغ الشعر، وقد مال إلى ترجيح أن تكون القصيدة المنسوبة لتأبط شرا ليست له، اتكاء على الإدراك الواعي لنسيج الشاعر وطريقته في صوغ الأسلوب، حيث يقول: "ووجه آخر هو أني أجد نسبتها إلى تأبط شرا أمرا صعبا، لأن نسجها يخالف كل المخالفة، ما وصل إلينا من شعره وهذا أمر دقيق(8). * والمكان له دور في تحديد قائل النص، حين تتعمق خبرة الناقد المعرفية بجغرافية المكان، وأماكن القبائل، وتحركاتها.. وقد نعى"محمود شاكر" على "ابن هشام"، نسبة القصيدة إلى «الهجال بن امرئ القيس الباهلي" [ابن أخت تأبط شراً] في خبر طويل جداً في كتابه «التيجان» وقال محمود شاكر: إن هذا الخبر فيه خلط كثير، وليس في كتب الثقات ما يؤيده، ثم يقوم بتجريح رواية "ابن هشام" فيقول: إنه كان قليل العلم بالشعر، ويناقش مسألة نسب ابن أخت تأبط شراً وهو الهجال في زعم ابن هشام ويقول: نعم كان «تأبط شراً من بني فهم بن عمرو بن قيس عيلان ابن مضر و«باهلة» التي ينسب إليها "الهجال بن امرئ القيس هم«بنو مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر" ولكني أستبعد أن يكون "الهجال" هو "ابن أخت تأبط شرا" لأن ديار باهلة عند الإسلام باليمامة في شرقي نجد، وديار بني فهم "رهط تأبط شراً" كانت بالحجاز غربي نجد، ويا بعد ما بينهما. ولم أجد في شيء من مراجعي ذكرا لأحد يقال له الهجال بن امرئ القيس الباهلي. ثانياً: العناية الفنية والعلمية بالترتيب الصحيح لأبيات النص، ومناقشة الروايات المختلفة للنص مع ضبطه في إحكام وضرورة التحقق من ذلك. وقد أشاد محمود شاكر بهذا المعلم من معالم منهجه صراحة في القسم الثالث من كتابه "نمط صعب" وأكد على أنه ينبغي ألا يدع المرء جهداً يبذل في تحري أمور أربعة، واستقصائها بكل وجه متيسر، وهي : استقصاء المصادر التي روت القصيدة تامة، أو روت قدرا صالحا منها، مع التزام الترتيب التاريخي لمن أسندت إليه الرواية فيها، ثم إيضاح اختلاف عدد أبيات القصيدة في كل رواية، ورصد الفروق بين رواية الرواة عن شيخ واحد من شيوخ الرواية، ثم اختلاف هذا الترتيب إن كان في رواية غيره من الشيوخ. ثم استقصاء كل اختلاف يقع في بعض ألفاظ الأبيات في هذه المصادر، ثم في سائر مصادر اللغة والنحو والأدب والتاريخ. ثم يؤكد الشيخ على أن الترتيب التاريخي في كل ذلك أمر لا ينبغي إغفاله أو التهاون فيه،(9) وهذه الصرامة في تطبيق المنهج ليست فرضيات يطرحها أبوفهر، وليست تنظيرا يعوزه التطبيق، ولكنه قام بتطبيق هذه الأمور الأربعة في دقة علمية، وهو يحلل قصيدة ابن أخت تأبط شراً، وهو بهذا المنحى التطبيقي قد سلم من الآفة التي تصيب كثيرا من الداعين إلى المناهج. حيث يقدمون قواعد جافة لا تصمد أمام وهج التطبيق، وتظل عاجزة عن تقديم الثمار النافعة لشداة الأدب، وأرباب البيان، وفرسان النقد. ثالثاً: الإيقاع العروضي وصلته بالتجربة : إن النص الشعري تتعدد أبعاده الجمالية، والبحث عن أسرار هذا الجمال ربما يكمن في البناء بالموسيقى،
الرد مع إقتباس