الموضوع: لا أذود الطير!
عرض مشاركة مفردة
  #10  
قديم 14-12-2002, 05:05 PM
خشان خشان خشان خشان غير متصل
عضو قديم
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2000
المشاركات: 300
إفتراضي

وربما يكمن في التشكيل بالصورة، وربما يكمن في البنية اللغوية والإحساس بالزمن، وكل الأبعاد السابقة تنبثق من الطاقة الشعورية المتدفقة من كيان النص، وهو بدون هذه الطاقة يعد نهرا جافا، وحديقة يابسة، وأفقاً منطفئ النجوم.(10) وهذه الطاقة الشعورية الموارة في وجدان الشاعر تظل بين التوهج والانطفاء من ناقد لآخر.. وهي في أكثر حالاتها خامدة، لأن الناقد يتعامل مع النص في وعي وعقلانية وأناة، ومعه أدواته النقدية وخبرته. ولكن الأمر مختلف جدا مع شيخنا "محمود شاكر" فهو يواجه النص وهو -ربما- أكثر انفعالا وتوهجا، والتحاما بالتجربة من منشئ النص نفسه، وربما تعد هذه الحالة النقدية من المشاهد النقدية النادرة في تحليل النص ومواجهته - وهي تمثل منهجا يقوم على التذوق الجمالي للنص، مصحوبا بحالة من الوجد والصدق الشعوري في استكشاف جماليات االنص، ويؤكد الشيخ هذا المنهج حينما يصور قراءته للشعر بأنها "قراءة متأنية، طويلة الأناة، عند كل لفظ وكل معنى، ثم يقول" كأني أقلبهما بعقلي، وأروزهما (أي : أزنهما مختبراً) بقلبي، وأحبسهما حبسا ببصري وببيدتي، وكأني أريد أن أتحسسهما بيدي، وأستنشئ (أي أشم) ما يفوح منهما بأنفي، وأسمع دبيب الحياة فيهما بأذني، ثم أتذوقهما تذوقا بعقلي وقلبي، وبصيرتي وأناملي، وأنفي وسمعي ولساني، كأني أطلب فيهما خبيئا قد أخفاه الشاعر الماكر بفنه وبراعته، وأندس إلى دفين قد سقط من الشاعر عفوا، أو سهوا، تحت نظم كلماته ومعانيه، دون قصد منه أو تعمد أو إرادة(11). إن هذا الفناء الكلي في النص في سبيل الكشف عن الكنوز الخبيئة، هو نمط صعب ونمط حبيب وغير مخيف لدى عاشقي الشعر ومن فطرهم الله على النقد والتحليل. وانطلاقا من هذا المنهج حلل "محمود شاكر" البنية الإيقاعية "في قصيدة ابن أخت تأبط شرا واحتشد لهذا التحليل، كالعهد به دائما احتشاد المحارب العاشق المدافع عن عرينه، وقد بالغ وأسهب في دراسة "الأطر العروضية" والأوزان، والدوائر، ومما ينبئ عن تغلغل القيمة النغمية والعروضية للنص في منهجه أنه بدأ مواجهة القصيدة بدراسة ظاهرة "التفعيل" ثم ظاهرة "التجريد" وهي حركات وسكنات التفاعيل، ثم عرض في إيجاز للدوائر العروضية(12). وهذا المهاد النظري العروضي، عاد إليه الشيخ مرة أخرى وأسهب في تقديم القواعد العروضية من ص(85-116)، وهو يعد ذلك تأسيسا لأحكامه النقدية الرابطة بين الإيقاعات العروضية، وبين تجربة الشاعر، وتصوير هذه التجربة في إطار من النغم المتدفق، وكان بإمكان شيخنا التركيز على بحر "المديد" وزحافاته وعلله، وتشكيلاته العروضية.. لأن القصيدة تسبح أنغامها في أمواج هذا البحر، الذي أفاض الشيخ في تباين خصائصه النغمية.. وعلاقة إيقاعه بالتصوير البياني، عن طريق التشبيه المفرد وليس المركب وكذلك نغم المديد بتشكيل الصورة الإيحائية، القائمة على الإيجاز والاقتصاد اللفظي، وكذلك علاقة هذا النغم بالكلمة الحية الموجزة المقتصدة. ولا شك أن هذه قضايا شائكة لم تأخذ صفة القاعدة، وإنما بنيت على التذوق، والاجتهاد النابع من سياق النص. ومكونات التجربة ومناخها، وتكوينها الأسلوبي، وأصالة المنهج تنبع من أن أحكام الشيخ وكشوفاته النغمية لا تنفصل عن جذور هويتنا الثقافية العربية والإسلامية، وليست متكئة على مصطلحات أجنبية مثقلة. يقول معقبا على تحليله لظاهرة النغم في النص: "الآن فرغت من هذا الغناء" الفخم" وكنت مستطيعا أن أهزل باسم الغناء والنغم، فأستولج في كلامي ألفاظا للتغرير والإثارة، فأقول "السمفني" و"الهرمني" وكروبا وراء ذلك كثيراً!!! ولكني آثرت أن أدع الأمر حيث هو من القرب، والبعد أيضا، لأن حديث النغم كان يقتضي أن أعود إلى ماقلته في بناء الغناء العربي كله على ماهدانا إليه الخليل رحمه الله، وسماه "الأسباب والأوتاد" وأن أعود أيضا إلى ما استظهرته من أن الأوتاد وهي الثوابت التي لا يدخلها زحاف، لها في كل بحر منازل لا تفارقها، ومن حولها تدور الأسباب مزاحفة وغير مزاحفة، وأن أبين أيضا أن الزحاف ليس ضرورة كما يتوهم، بل هو أصل في تنوع النغم، يعطيه شيئا جديدا، ويكسبه معاني جمة، لا تكاد تحصر، وكل العمل في الغناء والترنيم هو لمهارة "زمن النفس" الذي يتولى القصيدة في إلحاق هذه المعاني بالنغم، بنسب مضبوطة محكمة مقدرة، صادرة عن حركة الأسباب وزحفها على الأوتاد والتقائها بها، لا في البيت الواحد، بل في جملة الغناء من أول بيت إلى آخر بيت"(13) ويفيض الشيخ شاكر في تحليل إيقاع بحر «المديد» ويحلل قول العروضيين القدامى الذين وصفوا موسيقاه بالثقل، أو الصعوبة والعسر. كما وصفه د.عبدالله الطيب(14)، ويصل بعد تحليل للأسباب والأوتاد وعلاقتهما بالنغم إلى أن الأمر ليس ثقلا.. ولكنه نزاع خفي بين «الحادي والمجيب» وبين الترفيل، وما أوجب عليك نزاعهما من توقف وتردد وإحجام، ومن استفزاز مسرع بك إلى الانطلاق، ثم حدوث ذلك كله في زمن متقارب، وهذا التحليل منبعه الذائقة الفنية، والحدس، وهو كما يقول الغزالي" مفتاح أكثر العلوم"، وتذوق النغم والتأني في التذوق، هما الفيصل في إدراك حقيقة هذه الصفة، أو هذا المنزع في إدراك العلاقة بين البنية الإيقاعية والتجربة الشعرية. ويقول الشيخ "وأجهل الناس من يظن أن جمال الأنغام المتسربة من ألفاظ الشعر وألحانه المركبة، دانية القطوف لكل كاتب أو ناقد" ولا يغفل "محمود شاكر" شطر التطبيق في المنهج، فهو يصهر النغم وتشكيل الصورة والبناء اللغوي في بوتقة فنية واحدة، ويعلق على تصوير الشاعر لكرم خاله وشجاعته حيث يقول : شامس في القُرِّ، حتى إذا ما ذكت الشعرى، فبرد وظلُّ يابس الجنبين من غير بؤس ونَدِيْ الكفِّين، شهم، مدلُّ يقول بعد الغوص وراء موجات الألفاظ وتحليلها مثل شامس، ويابس الجنبين، وندي الكفين وشهم، ومدل، وكأنه يحيي هذه الألفاظ ويعود بها للحياة من جديد في سياق هذا النص الجاهلي بناء على فهمه الدقيق لأسرار لغتنا الشاعرة كما وصفها العقاد. ويعيب على كبار علماء اللغة والرواة والشراح فهمهم القاصر لمدلولات الألفاظ في سياق النص المذكور، فيعلق على تفسير الفراء لكلمة «شهم» بأنه تفسير قاصر جدا، ثم يقول «ولا يغررك كلام الفراء فتحمل عليه هذا الشعر الذي نحن فيه، فإذا هو زاهق، قد أدرج في كفن اللغة "وينعى على المرزوقي في تفسيره لكلمة «مدل» بأنه الواثق بنفسه وآلاته وعدته وسلاحه". وقال متهكما.. هذا تفسير يذبح الشعر بغير سكين". يقول الشيخ شاكر مصورا دور الإيقاع الشعري في إثراء التجربة والالتحام بواقع الشاعر "وتمام المقابلة بين يابس الجنبين"، و"ندي الكفين" "زاد حركة" التنغش في الصورة كلها، بيد أن شاعرنا لن يكف مقتصرا على ما أحدث من تنغش الحياة، فإنه قد عزم أن يجمع مهارته وسطوته إلى مهارة بحر المديد وسطوته فيجعل الصورة في الأبيات الثلاثة جميعا، تتحرك حية، مكتملة الحياة والحركة، فسكت سكتة لطيفة بعد أن انتهى إلى "وندي الكفين" فقطع ما كان فيه، وأعرض عن عطف صفة على صفة بشيء من حروف العطف، انبعث يرمي على "أنغام بحر المديد بلفظين طليقين موجزين، فاهتزت الصورة كلها حية بما دب فيها من حياة جديدة "شهم مدل". ثم يتابع رصده لعنصر الإيقاع قائلا: "كان في هذين اللفظين : "شهم، مدل" من وجيب الحركة ونبضها، ومن حثحثتها واندفاقها، ومن تلهبها ومضائها، قدر لايدانيه شيء مما تدل عليه ألفاظ هذه الأبيات الثلاثة، ومجيئها بعد تنغش الحركة في ثلثي البيت الثالث أتاح لهما أن يسكبا في ألفاظ الأبيات قبلهما حركة دافقة، هزت ما كان ساكنا يترقرق من معانيها"(15). وهذا المنحى في تحليل الإيقاع الشعري يحاول من خلاله الناقد أن يتسمع إلى الإيقاع الباطن وأن يشاهده، وأن يشم رائحته، وأن يقبض عليه.. إنه إيقاع تحسه ولا تراه، تدركه ولا تستطيع أن تقبض عليه، ويكمن في تعادل النغم عن طريق مدات الحروف حينا، وعن طريق تكرارها حينا، وعن طريق استعمال حروف مهموسة أو مجهورة تتساوى مع الإطار العام للقصيدة"(16). وغير خافٍ على شيخنا أبي فهر، وعلى متذوقي الشعر، ومحبي الشعراء أن الشاعر لا يتعمد، وربما لا يعلم عن هذه الجماليات الإيقاعية والأسلوبية شيئا. وإنما مرده إلى السليقة اللغوية، والموهبة الشعرية التي خص بها قوم دون آخرين، ولذلك أجدني مترددا في قبول هذه العبارة على سبيل اليقين، حيث يقول "أبوفهر" بيد أن شاعرنا لن يكف مقتصرا على ما أحدث من تنغش الحياة، فإنه قد عزم على أن يجمع مهارته وسطوته إلى مهارة بحر المديد وسطوته"....إلخ.
الرد مع إقتباس