عرض مشاركة مفردة
  #16  
قديم 05-09-2005, 01:24 PM
muslima04 muslima04 غير متصل
عضو مشارك
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2003
المشاركات: 872
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم


ابن قيم الجوزية (زاد المعاد في هدي خير العباد)

وقنت في الفجر بعد الركوع شهراً، ثم ترك القنوت ولم يكن مِن هديه القنوتُ فيها دائماً، ومِنْ المحال ان رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ وَلَّيْتَ ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏)‏ الخ ويرفعُ بذلك صوته، ويؤمِّن عليه اصحابُه دائماً الى ان فارق الدنيا، ثم لا يكون ذلك معلوماً عند الامة، بل يُضيعه اكثرُ امته، وجمهورُ اصحابه، بل كلُهم، حتى يقولَ من يقول منهم‏:‏ انه مُحْدَثٌ، كما قال سعد بن طارق الاشجعي‏:‏ قلتُ لابي‏:‏ يا ابتِ انَّك قد صليتَ خلفَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، وابي بكر، وعمر، وعثمان،وعلي، رضي اللّه عنهم ها هنا، وبالكُوفة منذ خمس سنين، فكانوا يقنتون في الفجر‏.‏‏؟‏ فقال‏:‏ اَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ رواه اهل السنن واحمد وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير قال‏:‏ اشهد اني سمعت ابن عباس يقول‏:‏ ان القنوتَ في صلاة الفجر بِدعة، وذكر البيهقي عن ابي مِجلز قال‏:‏ صليتُ مع ابن عمر صلاة الصبح، فلم يقنُت، فقلت له لا اراك تقنُت، فقال‏:‏ لا احفظُه عن احد من اصحابنا‏.‏
ومن المعلوم بالضرورة ان رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم لو كان يقنت كلَّ غداة، ويدعو بهذا الدعاء، ويؤمِّن الصحابة، لكان نقلُ الامة لذلك كُلِّهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها، وان جاز عليهم تضييعُ امر القنوت منها، جاز عليهم تضييعُ ذلك، ولا فرق، وبهذا الطريق علمنا انه لم يكن هديُه الجهرَ بالبسملة كلَّ يوم وليلةٍ خَمسَ مرات دائماً مستمراً ثم يُضَيِّعُ اكثر الامة ذلك، ويخفى عليها، وهذا مِن امحلِ المحال بل لو كان ذلك واقعاً، لكان نقلُه كنقل عدد الصلوات، وعدد الركعات، والجهر والاِخفات، وعدد السجدات، ومواضع الاركان وترتيبها، واللّه الموفق‏.‏
والاِنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، انه صلى الله عليه وسلم جهر، واسر، وقنت، وترك، وكان اسرارُه اكثَر من جهره، وتركه القنوتَ اكثر من فعله، فانه انما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على اخرين،ثم تركه لما قَدِمَ من دعا لهم، وتخلَّصوا من الاسر، واسلم من دعا عليهم وجاءوا تائبين، فكان قنوتُه لعارض، فلما زال تَرَك القنوت، ولم يختصَّ بالفجر، بل كان يقنُت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن انس وقد ذكره مسلم عن البراء وذكر الاِمام احمد عن ابن عباس قال‏:‏ قنت رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصُّبح في دُبُرِ كل صلاة اذا قال‏:‏ سَمعَ اللَّهُ لِمنْ حَمِدَه من الركعة الاخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سليم على رِعل وذَكوان وعُصية، ويؤمِّن من خلفه، ورواه ابو داود‏.‏
وكان هديُه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة، وتركَه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان اكثر قنوته فيها لاجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربِها من السَّحَر، وساعةِ الاِجابة، وللتنزل الاِلهى، ولانها الصلاةُ، المشهودة التي يشهدها اللّه وملائكتُه، او ملائكةُ الليل والنهار، كما رُوي هذا، وهذا، في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اِنَّ قُرْانَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ واما حديثُ ابن ابي فُديك، عن عبد اللّه بن سعيد بن ابي سعيد المقبُري، عن ابيه، عن ابي هُرَيْرَة قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اذا رفع راسَه مِنَ الرُّكُوعِ من صلاة الصُّبح في الرَكعة الثانية، يرفع يديه فيها، فيدعو بهذا الدعاء‏:‏ ‏(‏اللَّهمَّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِني فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لي فِيمَا اَعْطَيْتَ، وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، اِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضى عَلَيْكَ، اِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتعالَيْتَ‏)‏ فما ابين الاحتجاج به لو كان صحيحاً او حسناً، ولكن لا يحتج بعبد اللّه هذا وان كان الحاكم صحح حديثه في القنوت عن احمد بن عبد اللّه المزني‏:‏ حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا احمد بن صالح، حدثنا ابن ابي فديك فذكره نعم صحَّ عن ابي هُرَيرَة انه قال‏:‏ واللّه لانا اقربُكم صلاةً برسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فكان ابو هريرة يقنُت في الركعة الاخيرة مِن صلاة الصبح بعدما يقول‏:‏ سَمعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِده، فيدعو للمؤمنين، ويلعنُ الكُفَّار ولا ريب ان رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ثمَّ تركه، فاحبَّ ابو هريرة ان يُعلِّمهم ان مِثلَ هذا القنوتِ سنة، وان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا رد على اهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها
ويقولون‏:‏ هو منسوخ، وفعله بدعة، فاهلُ الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم اسعدُ بالحديث من الطائفتين، فانهم يقنُتون حيثُ قنت رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، ويتركُونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه،ويقولون‏:‏ فِعله سنة، وتركُه لسنة، ومع هذا فلا يُنكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعِلَه مخالفاً للسنة، كما لا يُنكِرون على من انكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعة، ولا تارِكه مخالفاً للسنة، بل من قنت، فقد احسن، ومن تركه فقد احسن، وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء، وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ودعاء القنوت دعاء وثناء، فهو اولى بهذا المحل، واذا جهر به الاِمام احياناً لِيعلِّم المامومين، فلا باس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المامومين، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم انها سنة، ومن هذا ايضاً جهر الاِمام بالتامين، وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يُعنَّف فيه من فعله، ولا مَنْ تَركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في انواع التشهدات، وانواع الاذان والاِقامة، وانواع النسك من الاِفراد والقِران والتمتع، وليس مقصودُنا الا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله هو، فانه قِبلَةُ القصد، واليه التوجُّه في هذا الكتاب، وعليه مدارُ التفتيش والطلب، وهذا شيء، والجائز الذي لا يُنكر فعلُه وتركُه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز، وانما مقصودُنا فيه هديُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه، فانه اكملُ الهدي وافضلُه، فاذا قلنا‏:‏ لم يكن مِن هديه المداومةُ على القنوت في الفجر، ولا الجهرُ بالبسملة، لم يدلَّ ذلك على كراهية غيره، ولا انه بدعة، ولكن هديُه صلى الله عليه وسلم اكملُ الهدي وافضلُه، واللّه المستعان‏.‏
واما حديث ابي جعفر الرازي عن الربيع بن انس، عن انس قال‏:‏ ما زالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في ‏(‏المسند‏)‏ والترمذي وغيرهما، فابو جعفر قد ضعفه احمد وغيره وقال ابن المديني‏:‏ كان يخلط وقال ابو زرعة‏:‏ كان يهم كثيراً‏.‏ وقال ابن حبان‏:‏ كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير‏.‏
وقال لي شيخنا ابن تيمية قدَّس اللّه روحه‏:‏ وهذا الاِسناد نفسه هو اسناد حديث ‏{‏وَاِذْ اَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ادَم مِنْ ظُهُورِهِمْ‏}‏ ‏[‏الاعراف‏:‏ 172‏]‏‏.‏ حديث ابي بن كعب الطويل، وفيه‏:‏ وكان روحُ عيسى عليه السلام من تلك الارواح التي اخذ عليها العهدَ والميثاقَ في زمن ادم، فاَرسلَ تلك الروحَ الى مريم عليها السلام حين انتبذت من اهلها مكاناً شرقيا، فارسله اللّه في صورة بشر فتمثل لها بشراً سوياً، قال‏:‏ فحملت الذي يخاطبها، فدخل مِن فرجها، وهذا غلط محض، فان الذي ارسل اليها الملك الذي قال لها‏؟‏ ‏{‏اِنَّمَا اَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لاهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏ ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى بن مريم، هذا محال‏.‏
والمقصود ان ابا جعفر الرازي صاحبُ مناكير،لا يَحتج بما تفرد به احدٌ من اهل الحديث البتة، ولو صح، لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فانه ليس فيه ان القنوتَ هذا الدعاءُ، فان القنوتَ يُطلق على القيا م، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ كُلُّ لَهُ قَانِتُون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ اناءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُو رَحمَةَ رَبِّه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏(‏اَفْضَلُ الصلاةِ طُولُ القُنُوت‏)‏‏.‏ وقال زيد بن ارقم‏:‏ لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ امرنا بالسُّكُوتِ، ونُهينا عَنِ الكَلامِ‏.‏ وانس رضي اللّه عنه لم يقل‏:‏ لم يزل يقنُت بعد الركوع رافعاً صوته ‏(‏اللَّهُمَّ اهدني فيمن هديت‏.‏‏.‏‏)‏ الى اخره ويؤمِّن من خلفه، ولا ريب ان قوله‏:‏ ربَّنا ولكَ الحمدُ، مِلءَ السماواتِ، وَمِلءَ الارضِ، ومِلءَ ما شئت من شيء بعدُ، اهلَ الثناء والمجد، احقُّ ما قال العبدُ‏.‏‏.‏‏.‏ الى اخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله، قنوتٌ، وتطويلُ هذا الركن قنوتٌ، وتطويلُ القراءة قنوت، وهذا الدعاءُ المعيَّن قنوت، فمن اين لكم ان انساً اِنما اراد هذا الدعاء المعين دون سائر اقسام القنوت‏؟‏‏!‏
ولا يقال‏:‏ تخصيصُه القنوتَ بالفجر دونَ غيرها مِن الصلواتِ دليل على ارادة الدعاء المعين، اذ سائر ما ذكرتم من اقسام القنوت مشترَك بين الفجر وغيرها، وانس خصَّ الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت، ولا يمكن ان يُقال‏:‏ انه الدعاء على الكفار، ولا الدعاء للمستضعفين من المؤمنين، لان انساً قد اخبر انه كان قنت شهراً ثم تركَه، فتعيَّن ان يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوتَ المعروف، وقد قنت ابو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والبراء بن عازب، وابو هريرة، وعبد اللّه بن عباس، وابو موسى الاشعري، وانس بن مالك وغيرهم‏.‏
والجواب من وجوه‏.‏ احدُها‏:‏ ان انساً قد اخبر انه صلى الله عليه وسلم كان يقنُت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري، فلم يخصص القنوت بالفجر، وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء، فما بالُ القنوت اخص بالفجر‏؟‏‏!‏
فان قلتم‏:‏ قنوتُ المغرب منسوخ، قال لكم منازعوكم من اهل الكوفة‏:‏ وكذلك قنوتُ الفجر سواء، ولا تاتون بحجة على نسخ قنوت المغرب الا كانت دليلاً على نسخ قنوت الفجر سواء، ولا يُمكنكم ابداً ان تُقيموا دليلاً على نسخ قنوت المغرب واحكام قنوتِ الفجر‏.‏ فان قلتم‏:‏ قُنوتُ المغرب كان قنوتاً للنوازل، لا قنوتاً راتباً، قال منازعوكم من اهل الحديث‏:‏ نعم كذلك هو، وكذلك قنوتُ الفجر سواء، وما الفرق‏؟‏ قالوا‏:‏ ويدل على ان قنوت الفجر كان قنوتَ نازلة، لا قنوتاً راتباً ان انساً نفسه اخبر بذلك، وَعُمدَتكم في القنوت الراتب انما هو انس، وانس اخبر انه كان قنوتَ نازلة ثم تركه، ففي‏(‏الصحيحين‏)‏عن انس قال‏:‏ قنَتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على حي مِن احياءِ العرب، ثم تركه‏.‏