عرض مشاركة مفردة
  #104  
قديم 18-01-2005, 04:34 PM
المشرقي الإسلامي المشرقي الإسلامي غير متصل
عضو مشارك
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 637
إفتراضي

خيارات المستقبل الصعبة

د. رياض نعسان أغا
هناك إحساس لدى الغالبية العظمى من العرب والمسلمين بأن "إسرائيل" تستعد حالياً للقيام بعمل تخريبي في المسجد الأقصى وأنها ربما وصلت إلى التوقيت المناسب لها للبدء ببناء الهيكل الذي يعتقد المتدينون من الصهاينة (يهوداً ومسيحيين) أن بناءه شرط لمجيء المسيح اليهودي المنتظر ولإعلان مملكة الرب.



و"إسرائيل" تهدد يومياً بتوجيه ضربات موجعة في قلب الأمة العربية بهدف إسكات من لم يسكت بعد، وإرغام من لا يزال يقاوم على أن يلقي سلاحه وأن يرفع يديه مستسلماً ومعلناً التنازل عن البقية الباقية من الحقوق المغتصبة.



وعلى الرغم من أن "إسرائيل" تدرك أن تحقيق حالة الاستسلام والانهزام العربي والإسلامي شيء من المحال، إلا أن "إسرائيل" تدرك كذلك أن الضربات الموجعة تترك آثاراً نفسية ومادية قاسية، كتلك التي وجهتها لحركات المقاومة الفلسطينية بمباركة أميركية لمسلسل الاغتيالات والاعتقالات وهدم المنازل ومصادرة الأراضي، حيث وضعت المقاومة أمام امتحان صعب حين بات الشعب الفلسطيني كله مهدداً بالإبادة الجماعية.



وقد صعدت "إسرائيل" سياسة القتل اليومي والجروح البليغة النازفة والإعاقة الدائمة. والمحزن أنها نجحت إلى حد مثير على الصعيد الإعلامي الدولي بتزييف الحقائق وبتشويه صورة المقاومة، مستغلة ببراعة ما حدث في 11 سبتمبر حيث قدمت نفسها ضحية للإرهاب غير آبهة بالمنطق الذي لم يعد يعني أحداً ما دام الأقوياء في العالم يمالئون الأقوياء، ويتركون للضعفاء أروقة الأمم المتحدة. وحتى لو تعاطف مع الضعفاء أحد في مجلس الأمن فإن الفيتو الأميركي يضمن استمرار الظلم حتى ولو أدانته محكمة دولية عادلة مثل محكمة لاهاي.



والمفجع كذلك أن العرب لم يعودوا قادرين على مطالبة الشعوب بالوقوف معهم ضد "إسرائيل"، كما كان الأمر في الماضي حين كانت دول العالم تحسب حساباً للعرب الذين كانوا يعلنون أن موقفهم من أية أمة يحدده موقفها من الصراع العربي الصهيوني، وهذا ما جعل أمماً كبرى تحجم عن إقامة علاقات مع "إسرائيل"، كرْمى للعرب. لكن الحال تغير بعد أن أقام بعض العرب أنفسهم علاقات وطيدة مع "إسرائيل". ولم يعد بوسع عربي أن يعتب على أهل الهند أو أهل الصين أو أهل أفريقيا مثلاً إن هم أقاموا علاقات متينة مع "إسرائيل" لو أن الصراع العربي الإسرائيلي كان منتهياً إلى سلام شامل عادل؟ لكن الصراع ما يزال على أشده. بل إن "إسرائيل" صعدته بقوة وشراسة بعد أن اطمأنت إلى تفردها بالفلسطينيين وبعد أن تمت تجزئة القضية والحلول معاً.



والأمة اليوم تدفع ثمناً باهظاً للحلول الفردية التي فككت عراها، وجعلت العرب يتقاذفون المسؤولية عما هم فيه من ضعف وذل وهوان، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تحميل المقاومة الوطنية الشريفة مسؤولية استمرار الصراع مع "إسرائيل". لقد بتنا نسمع من يلوم منظمات المقاومة وكأنها هي المعتدية، وقد انتشر المبدأ المخجل (انجُ سعد فقد هلك سعيد) مع أن أحداً من العرب والمسلمين لن ينجو من الخطر لأن المشروع الصهيوني عدواني في منهجه وطبيعته، ولن تترك الصهيونية العرب والمسلمين بحالهم حتى لو قدموا لها الولاء صباح مساء، لأنها لا تملك أن تطمئن لمستقبلها التوسعي إلا إذا ضعف العرب وانهارت دولهم وزالت مكانتهم، وليس بوسع "إسرائيل" أن تطمئن إلى إعلان مملكتها الدينية الكبرى التي يتطلع إليها ملايين اليهود في العالم ومعهم ملايين (المسيحيين المتصهينين) ما دامت العروبة حية وما دام الإسلام قائماً والقرآن يقرأ ويحفظ. وحتى لو صمت المسلمون، وتركوا "إسرائيل" تفعل ما تريد بالمسجد الأقصى (وهم قد تركوها على صعيد عملي)، وحتى لو ذهب بعضهم للمباركة بمجيء المسيح اليهودي خليفة لشارون، فإن "إسرائيل" لن يرضيها ذلك. فما دام القرآن قائماً في الأرض (كما قالت غولدا مائير ذات يوم) فإن المشروع الصهيوني لن يستقر، وهذا ما يفسر الحملة الصهيونية الكبرى لمعاداة الإسلام واعتباره عدواً استراتيجياً وإلصاق تهمة الإرهاب به عبر مسرحيات دراماتيكية كبرى يذهب ضحاياها أبرياء من كل القوميات والجنسيات مع كل عملية مفبركة تهدف إلى تقديم دليل على أن الإسلام دين عنف، وأنه كما قال أحد مقدمي البرامج التلفزيونية على قناة أميركية قبل أيام هو"منظمة قتل إرهابية ". وهذا الموقف الديني الإيديولوجي يفسر هروب "إسرائيل" من السلام، ورفضها لكل المبادرات، لأنها تريد إضعاف العرب واستسلامهم التام بما يضمن لها أن تغير الثقافة العربية فتلغي منها العروبة لغة وفكراً، و تزيف القرآن وتقدم نسخة مزورة عنه. وقد قيل إن بعض الصهاينة طبعوا نسخاً مزيفة من القرآن الكريم، حذفت منها الآيات التي تحكي عن "بني إسرائيل"، وأضيفت إليه آيات تذم المسلمين. ومع أننا لا نخاف من تزييف القرآن ولا نخشى انتشار نسخ مزورة منه لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ قرآنه، إلا أن هذا السلوك العدواني ينذر الأمة بحجم الخطر القادم.



وقد يبدو هذا الكلام نوعاً من المبالغة والأوهام في نظر الكثيرين من العقلاء، وهم على حق لأن العاقل لا يمكن أن يصدق أن في "إسرائيل" حمقى يريدون حقاً هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل، وأن فيها من يرفضون فرصة الصلح والسلام الشامل مع العرب لأنهم متفائلون بأن يلقي العرب جميعاً أسلحتهم وأن يأتوا أذلاء صاغرين يطلبون الأمن والحماية من "إسرائيل"، وأن فيها من يظنون أن بوسعهم حقاً أن يغيروا ثقافة أمة، أو أن يقضوا على دينها و قرآنها. فمثل هذه الأهداف تبدو أقرب إلى الأوهام، وهي تكاد تبدو أكاذيب هدفها تشويه صورة الإسرائيليين (العلمانيين) لكن المشكلة أن الإسرائيليين فيما يفعلون باتوا موضع شبهة وهم لا يجدون بين العرب اليوم من يدافع عن نواياهم الطيبة إن كانت موجودة حقاً، ولا سيما بعد أن باء بالخذلان والخيبة دعاة التطبيع حين وضعتهم "إسرائيل" في وضع محرج حتى بدوا كأنهم يدعون الجرحى والأيتام والثكالى إلى مصافحة ومصالحة من يقطر دمهم من يديه.



لقد أظهرت نتائج استطلاع أقيم قبل بضعة أيام في جامعة حيفا، أن أربعة وستين في المئة من الإسرائيليين يوافقون على تهجير الفلسطينيين إلى دول أخرى، وأن تسعة وسبعين في المئة يؤيدون سياسة الاغتيالات للقيادات الوطنية الفلسطينية. ومن الواضح أن معسكر السلام العربي فقد شركاءه الإسرائيليين حين فوجئ العرب بأن الفارق الوحيد بين الحمائم وبين الجنرالات الإسرائيليين هو أن الحمائم يريدون أن يتم التمييز العنصري بشكل هادئ وبدون إثارة، بينما يريد صقور الجيش تطهيراً عرقياً وترحيلاً جماعياً علنياً، ولا سيما بعد أن اطمأنوا إلى أن أحداً لن يعترض بأكثر من بيان شجب أو إدانة.

لقد أصبحت الخيارات العربية صعبة جداً بعد أن رفض الإسرائيليون المبادرة العربية للسلام، وبعد أن تخلت الإدارة الأميركية الراهنة أو كادت تتخلى عن مسؤوليتها كراعية مفترضة للسلام، وبعد أن أباحت لإسرائيل أن تفعل ما تريد من قتل وهدم وتشريد وتهديد يومي لجيرانها وعدوان عليهم، مما يجعل السؤال هو: ما البديل إذن عن مشروع السلام العاثر؟ فإذا كان بديل السلام هو الحرب فالمفترض أن العالم كله يستبعد الحروب ويؤمن بأنها لا تجلب غير الدمار، وقد جرب العرب والإسرائيليون الحروب. وإن كانت "إسرائيل" قد انتصرت في الحروب النظامية فإنها خسرت الكثير في الحروب غير النظامية، وقد آن للبشرية أن تحل مشكلاتها بالحوار وبالمنطق وأن تحتكم إلى الشرعية الدولية. لكن في "إسرائيل" مجموعة من العسكريين الحمقى المأخوذين بالقوة العسكرية يناصرهم أعوانهم الصهاينة في الإدارة الأميركية وهؤلاء يعتقدون أن توجيه سلسلة ضربات قاسية للعرب مع تغيير في بعض الأنظمة العربية سيحل القضية، وسيجعل العرب يخرسون إلى الأبد. ولكن هذه الرؤية قاصرة جداً، ومن المستبعد أن يترك العقلاء للحمقى فرصة تدمير كل شيء، وما حدث في العراق يصعب أن يتكرر في بلد عربي آخر، ولا يوجد في الأمة صدام آخر يمكن أن يقدم المبررات الطازجة لأميركا كي تجد ذرائع لحربها، وأما "إسرائيل" فليس من صالحها توسيع رقعة الفوضى في الشرق الأوسط لأنها ستعيدها إلى المربع الأول، وستجد نفسها محاطة بالدمار من كل جانب، وسيكون من المحال أن تتجنبه.



إن العالم كله مسؤول اليوم عن تقديم رؤية ناضجة وعادلة للمستقبل في المنطقة العربية، وقد فشلت الرؤية الأميركية للشرق الأوسط الكبير حين لم يقبل بها أحد، وهي رؤية لا يمكن أن تنفذ بالقوة، وسر رفض العرب والمسلمين لها أحساسهم بأن الهدف المضمر منها هو تمكين "إسرائيل" ومنحها سيادة مطلقة. وقد بدا عجيباً أن يفصل موضوع الصراع العربي الصهيوني عن الرؤية لمستقبل الشرق الكبير، ولهذا كان طبيعياً أن يسقط المشروع وألا يجد دعاته من يدافعون عنه حتى بين أنصارهم.



لقد كان إطلاق موضوع الإصلاح في الشرق الأوسط نوعاً من التعمية والإلهاء عن الجرائم الفظيعة التي تقوم بها "إسرائيل". ففي الفترة التي انشغل بها الرأي العام بمتابعة قضايا الإصلاح، تمكنت "إسرائيل" من توجيه ضربات شبه قاضية للمقاومة وقتلت رموزها وارتكبت جرائم إبادة جماعية في رفح وبالتحديد في حي تل السلطان ثم في طولكرم وخان يونس وغزة ونابلس، كانت الحوارات حارة حول قضايا خلافية في أواخر مايو قبيل انعقاد قمة الثماني وكانت "إسرائيل" تشن حرب إبادة على المدن الفلسطينية وتتابع بسرعة بناء جدار الفصل العنصري.



وعلى الرغم من كل نذر الشر التي تطالعنا بها التصريحات العدوانية وبخاصة تلك التي تهدد سوريا، فإنني أتفاءل بأن يصحو القادة الكبار في الولايات المتحدة وفي العالم كله على حقيقة أن العدل وحده هو الذي يضمن الأمن والاستقرار وليس القوة، وأن الشعوب الضعيفة تستطيع الحفاظ على حريتها وكرامتها حتى وإن جردت من كل أسلحتها، وليتنا نجد في البيت الأبيض قلوباً بيضاء قادرة على المحبة وعلى تخليص العالم من سواد الحقد والكراهية ومن لغة التهديد والوعيد.
__________________
هذا هو رأيي الشخصي الخاص المتواضع، وسبحان من تفرّد بالكمال