عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 21-05-2006, 07:16 AM
أحمد ياسين أحمد ياسين غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2005
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 6,264
إفتراضي



ولزام عليّ أن أقول حبذا لو ارتفعت أصوات فرنسية مرموقة و تصدت، بما هو حق، واعترضت على محاولة الإفراج عن الروائح الكريهة وتخليص المستقبل من تلك العفونات المشؤومة لماض وَلَّى وأدبر بلا رجعة. وكان من الأفضل، في مصلحة شعبينا وما يربطهما من صداقة لا تنقطع حالها حال شعرة معاوية، أن ينبري من الفرنسيين من يقول لبني جلدته وبلهجة هادئة وحازمة : " صحيح، إن مغامرتنا الاستعمارية كانت حقا مغامرة إبادية. أجل، الاستعمار لم يكن متناغما مع الحداثة وإنما مع المسخ الحضاري. نعم ، ينبغي لدولتنا أن تمسح عن وجهها الدرن والحمأة اللتين لطخ الاستعمار بهما وجهها. و لهذا، فعليها أن تقدم على غرار غيرها من الدول عبر العالم، اعتذارها لتلك الشعوب التي عانت من سيطرتها الاستعمارية، و بخاصة منها للشعب الجزائري الذي كابد تلك السيطرة ردحا من الزمن طال وتمادى وبهمجية شرسة تعددت أشكالها وأسرفت أيما إسراف في الإبادة. "



هذا هو السلوك الصريح الذي يمكنه وحده أن يحدث قطيعة مع ماض بائد، وأن يفتح الطريق أمام صداقة بين دولتينا وشعبينا لكن بدلا من هذا، فإننا نشاهد مسلسلا من التردد، من نعم ولكن، ولكن التي فمن شأنها أن تثير الريب ومن القبول المشروط الذي يتخلله ذكر « واجب الذاكرة » الغامض الملامح، ومواد القانون الذي يصادق عليه ثم ينسخ نصه .... وبينما كان الشعب الجزائري ينتظر من فرنسا الرسمية أن تتحمل بشجاعة وهمة ورصانة « واجب الاعتراف بالحقيقة » ، أي أن تلقي نظرة ناقدة على تاريخها، لم يسمع سوى استعراض عشوائي ومخجل ومقرف لمفاخر أو لفوائد الإستعمار ونعمه. وأتمنى أن يفهم الجميع في فرنسا أن الشعب الجزائري لم يصفق لمثل هذا الاستعراض الشائن، بل اغتاظ منه رغم سعة صدره.



لقد شهد كلا مجتمعينا، بعد ما يقارب الجيلين، تحولات معتبرة وابتعد فعلا عن الماضي الاستعماري ومخازيه. وفي نفس الوقت، اختبر كلا مجتمعينا أشكال تداخل غير معهودة، كما يتجلى ذلك من خلال أهمية الجالية الجزائرية المقيمة بفرنسا ومتانة العلاقات التجارية بين بلدينا والتوافق القائم، إلى حد ما بين دولتينا حول بعض القضايا الدولية. فيحسن بنا أن نرتكز على هذه المعطيات الملموسة لبناء صداقة تعتمد على محو الأثر الوخيم الذي خلفه الاستعمار وتتجه صوب إبتكار المستقبل. ولا يليق بنا أن نوهم أنفسنا : فسبيل المستقبل ليس معبدا ، فهو وعر كؤود. و لا بد أن نعنى، منذ الآن، بمباشرة معالجة، منسقة وإنسانية ومرنة، لحركة الأشخاص بين البلدين، وكذا لتدفقات الهجرة التي من دونها تكون الصداقة اسما بلا معنى. و يكون من العبث مواصلة إثقال تساؤلات اليوم والغد بنعرات الأمس التي تتحمل فرنسا الاستعمارية وحدها كامل مسؤوليتها ووزرها. فعلى الدولة الفرنسية أن تقول بوضوح إن فرنسا الاستعمارية عفى عليها الزمن، وتعلن أنه لم يعد لها وجود، و إنه حتى و إن استمرت في البقاء المضمر، فإنها لا تلقى منها أية تزكية.



إن تاريخ التواجد الفرنسي في الجزائر ينطوي على صفحات سود نكراء لا بد من الإقرار بها لا لإرضاء حفيظة وإنما لتمكين إجراء تشريح معنوي للإستعمار وكشف فظائع حرب أريد بها تمديد وجود استعماري رفض الإعتراف بصفتها الحقيقية طيلة أربعة عقود من الزمن، وإعداد الأسس الجديدة لمستقبل نتولى بناءه سويا، مستقبل خال من شوائب التاريخ الاستعماري، مستقبل لا وجود فيه لاتحاد قسري قائم على علاقات يسمها العنف والإحتقار. إن مثل هذا، سيمكننا من أن نسير أخيرا نحو المستقبل بمحض إرادتنا وبقلوب خالية من الضغائن، ومن أن نتجنب الدخول في تحالف كتحالف المطية وراكبها.



سيأتي يوم تسكت فيه النزوت الصادرة عن الهوى، وحينها ، ستكون الأحكام المسبقة والحكم على النوايا من هذا الجانب أو ذاك، قد أدبرت وولت مع الماضي البائد. وإذاك، سيجري تقدير العلاقات الجزائرية الفرنسية بقسطاس الإنصاف وبمقياس المصالح الدائمة، من حيث إنها استقرت الاستقرار الصحيح في الأذهان، لشعبين مختلفين من حيث الهوية ومتساويين من حيث السيادة. إن هذا أمر يفرضه تطور العالم مثلما يفرضه إصرارنا وإرادتنا الراسخة في تكريس مشروعية حقوقنا ضمن شراكة استثنائية نرغب فيها ونحبذها حقا، لكنها، غدت تتفسخ، كل يوم أكثر، بفعل المساجلات الكلامية الظرفية.



لقد باتت المشاكل الراهنة بين الجزائر وفرنسا، بحكم طول استمرارها منذ سنين، مشاكل هيكلية. ومن ثمة، لا يمكن أن تتمادى معاناة الجزائر منها معاناة المريض من أوجاع مزمنة .



من جهة أخرى، ومهما يقوله البعض ومهما يعتقده البعض الآخر ، ليس هناك أزمة اليوم في العلاقات الجزائرية الفرنسية، ولا وجود لأي سحاب في سمائنا المشتركة، غير أنه يبقى علينا الكثير مما يجب فعله إن إذا أردنا الوفاء بمستلزمات رغبتنا المشتركة في مواصلة السير معا إلى أقصى ما نأمل .



ومن البديهي أن كل واحد صار ، منذ 5 يوليو 1962، سيدا في بيته وأنه ليس في نيتنا أن نمارس أي ضغط للحصول على ما هو حق أساسي للأمة الـجزائرية والدولة الجزائرية: أي الإعتذار التلقائي العلني والرسمي عن ارتكاب جريـمة الاستعمار في حق شعبنا.



ومن البديهي، كذلك، أن الصداقة يبنيها اثنان دون إكراه من أي طرف. وعلى الجزائريات والجزائريين أن يعلموا أنه إذا كان شعبنا قد انتصر بعد أن دفع ثمنا باهظا بما عاناه من احتلال مقيت يتقمص لبوس الحضارة، فإن ذلك لم يكن للوقوع في شباك مفاتن صداقة تتغذى من لحم البشر.



أشكركم على كرم الإصغاء.


والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته