عرض مشاركة مفردة
  #31  
قديم 04-02-2007, 10:15 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

التأريخ للعقل العربي .. هل هو تضليل .. أم حقيقة لا نحسن التعبير عنها؟

نلاحظ أحيانا بأن هناك مثلا من أبناء الخليج العربي أو بلاد الشام قد غاب عن وطنه عشرة أو عشرين أو ثلاثين سنة وأحيانا أكثر .. عندما يعود لمسقط رأسه فإنه لا يحتاج من يذكره بما سيقوم به، فهو إن كان قبل مغادرته موطنه قد اعتاد بعض أشكال التعامل والسلوك، كأن ينزع حذاءه في باب الغرفة أو يقبل يد من هو في مقام والده .. فإن السنين التي غابها عن بلاده لن تنسيه تلك العادات إطلاقا ..

كما أن مذاق الطعام وطرق تناوله كما كانت في السابق ستجد طريقها لنفس الغائب الحاضر على وجه السرعة .. وقد يكون الذي نتحدث عنه قد تزوج أو عاشر من نساء المهجر .. ولكنه لن يجد صعوبة في التكيف السريع، حتى في شكل النظرة للمرأة، ليس كما كانت عليه عندما غادر موطنه، بل وما طرأ على تلك النظرة والتعامل أثناء غيابه!

فما الذي يحدث؟ هل كان الإنسان الذي نتحدث عنه في رحلة جوية، سواء كانت (أجواءها) العلوم التي تعلمها أو الأيديولوجيات التي اعتنقها أو العادات اليومية التي تعايشها .. فإن كل تلك الأجواء ستزول بمجرد هبوطه على الأرض (واقعه بجذور ماضيه) ..

لقد قابلت ذات يوم أحد أبناء حيفا الذين هاجروا الى الأرجنتين، وكان قد غاب زهاء خمسين عاما، كان هو وزوجته الأرجنتينية يحاولا أن يسألا أحدا عن مسألة ما، وكان يبدو عليهما ذلك، فهيأت نفسي لتمثيل دور الذي يقبل أن تنهال عليه وجبة من الأسئلة، وحدث ما أردت .. فعلمت ما علمت عن الرجل وأخبرني بطبيعة عمله، بلهجة عربية صعبة الفهم، فهو لم يمرنها منذ وقت طويل، فامرأته أرجنتينية .. وعمله غريب نوعا ما، حيث عندما سألته عنه أجاب، حيث كنت أساعده ليعبر عما في نفسه في مناولته بعض الكلمات لإسعافه من الثأثأة، فكان عمله هو (مصادقة الحيوانات!) هكذا ترجمته .. وتلخيص طبيعة عمله هو أنه يقدم الأعلاف للجاموس البري (البافلو) مجانا، لينفرد بأحدها (دون انتباه الآخرين) .. ويذبحه ويبيع لحمه .. إذن لا احتكاك مهني يؤثر على تنمية اللغة كأداة للعقل، وليس هناك مجال لتنمية رصيده السابق من المعرفة ..

ومع ذلك فاجأني من خلال تطفلي لسؤاله عن تلك (البقج) أو (الأكياس) التي كانت مطروحة جانبا .. فقال: إنها ملابس فولكلورية .. حيث أريد إنشاء فرقة دبكة فلسطينية! لقد كان عمره فوق الخمس وسبعين عاما عندما قابلته، ولكن (أس) معرفته وهويته لم تمحه سنون الغربة أو تستطيع حوافر أو قرون الجاموس أن تزيله من ذاكرته أو مخزونه المعرفي (العقل كوعاء) ..

ظاهرة أخرى تسترعي وجوب سؤالنا، عن التضليل والحقيقة في مسألة التأريخ للعقل .. وتلك الظاهرة هي التي تتعلق بعودة الملحدين من شيوعيين ويساريين وغيرهم الى دينهم ومواظبتهم على صلواتهم وقيامهم بمعظم فرائض الدين، هذا خلاف تحول بعضهم الى فلاسفة ودعاة دينيين ( مثل مصطفى محمود) .. إنهم يتعاملون مع إلحادهم وكأنها فترة احتراف رياضي في مجال ما، ثم تلي ذلك الاحتراف حالة اعتزال، لكن الاعتزال يعود الى حالة الإيمان السائدة قبل رحيل هؤلاء لمساحات الإلحاد ..

هناك من يقول أو سيقول: إنها حالة التوبة .. وتتعاظم الرغبة للتوبة كلما تقدم العمر .. حسنا .. لقد أسس هؤلاء التائبون على قاعدة (عقائدية) أقروا بها سابقا ثم تمردوا عليها وعادوا إليها .. إن كان كذلك .. فسنجد أن تلك القاعدة العقائدية تملك سلطات واسعة مستترة، قد ينطق بها أناس (كُلفوا) أو (تطوعوا) ليكون وعاظا .. أو أن تلك السلطة (تسكن) في أي نفس من المجموع العام للمجتمع ..

هنا يبرز سؤال: كم عمر هذه الشخصية المستترة والتي تحتل الكيان الجماعي لشخصية الأمة .. ومن يحصنها من العبث؟ ومن يطور عليها .. وهل تلك الجيوش من الباحثين الذين يقرؤون ويكتبون ويخطبون ليلا ونهارا، هم من يصون تلك الشخصية (العقلية) أم أن وجودهم وعدمه له نفس الأثر؟

إن تعجلنا في الإجابة على السؤال السابق سندخل في حالة من اللبس والارتباك، فإن قلنا إن هؤلاء ليسوا لهم أثر فإننا سنكون ظالمين لهم وللنظرية العلمية التي تستوجب التطور والحتمية. لكن سيدهشنا أكثر أن أكثر الملتزمين بالدين وفرائضه هم من الأميين أو الناس التي لا تقرأ .. وهي حالة وجدناها في صدر الإسلام .. حيث كانت تضحيات من حفظ عشرة آيات في بدء الرسالة أكبر من تضحيات من تعلم الفقه والحديث ونال الشهادات العليا هذه الأيام ..

إن تلك الظاهرة سنجد لها تفسير سنني يرتبط بالمجموع وسلوكهم ومصالحهم، وطرق اتقاءهم الأخطار و تغنيهم ببطولة أبناء مجموعتهم .. تماما كما تكون فنون (أصناف أو تحت أصناف ) الكائنات الحية الأخرى فهناك أصناف كثيرة من الثعالب، كل صنف له طرائقه في الصيد وقوائم أعداء وأمكنة اختباء تختلف عن الصنف الآخر ..

فلذلك نجد أن الدين لا يمنع أن يتضاد أبناء الدين الواحد فيما بينهم ليجدوا مبررات تفلسف عدائهم لأخوانهم في الدين ( إيران ـ العرب) .. سيقول قائل: إنها الفوارق الطائفية .. وعنا سنقول لقد اصطف أبناء الكرد السنة مع الفرس الشيعة وتعاونوا مع الأمريكان أصحاب الدين المختلف ضد أبناء العرب.. أين التضليل وأين الحقيقة في فواصل التأريخ للعقل العربي؟؟
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس