عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 18-02-2004, 09:38 AM
أبو حسن أبو حسن غير متصل
المهندس
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2001
المشاركات: 39
إفتراضي االترحل في الشعر

الرَّاحلون! ـــ د.محمد رضوان الداية

في أبيات قليلة (قطعة قصيرة) يقول أحد شعراء القرن السادس أحمد بن علي الهُذَليّ، وهو يذكرُ معاناتِه من فراق الأَحِبّة، وتأثّر نفسه لذلكَ الفِراق؛ واستفادَ من بَيْتٍ لأبي الطيّب المتنبيّ ضَمَّنَهُ، قال:

ذكرتُ والدَّمْعُ يومَ البَيْنِ يَنْسَجِمُ





وَعَبْرَةُ الوجْدِ في الأحشاء تضطرمُ



مقالةَ المتنبي عندما زهقت





نفسي، وعَبْرَتُها تفيضُ وهي دَمُ!:



"يا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنا أنْ نفارِقَهُمْ





وجْدَانُنَا كلَّ شيءٍ بعدكم عَدَمُ"





فالشَّاعِرُ الهذلي تذكّر شعر المتنبي في موقف الفراق الصَّعب، حين انسكبت من عينيهِ دموعُ الوَجْد، وقال لمن فارَق من الأحبّة: يعزُّ عليَّ فراقكم، ذلك الفراقُ الذي جَعل كُلَّ شيءٍ بَعْدَكُم: لا قيمةَ له، ولا مَعْنَى له!

وبيتُ أَبي الطيب الذي اعْتَمد الشّاعِرُ الهذلي عليه، وَتَقَوَّى به في ذلك الموقف، من قصيدةٍ حَسنةٍ أنشدها سيفَ الدَّولة الحمداني، صدَّاحة من شعره، مشهورة، أكثرها من المحفوظ المتداول أوّلها:

واحَرّ قلباه ممّن قلبه شَبِمُ





وَمَنْ بجسمي وحالي عنده عَدَمُ





والقصيدة في عتاب سيف الدَّولة. وكانت قصائد المتنبي قد تأخّرت عن سيف الدَّولة، فأزْعَجه ذلك. ثم إنّ جماعةً من حضور ندوات الأمير تعرّضوا للمتنبي في مجلسه، فقال تلك القصيدة. وقد بَدأ الشاعر بهذا البيت الذي يجري في سياق الغَزل، وخلاصةُ معناه: قلبي في حرارةٍ من حُبّ المحبوب وقلبُه باردٌ (لا يبالي) من حُبّي. وهذا المَطْلَعُ يتوجَّهُ أيضاً على مَوْقفِه من سيف الدّولة على سبيلِ الإشارة والتّعريض.

وبعد أَبياتٍ في مدح سيف الدولة بمعانٍ متعدّدة أبرزها الشجاعة وعدم الهوادة في منازلة الرُّوم، أَثْنَى أَبُو الطيّب على نفسِه، متابعاً منهجه المَعْهُود، الذي اعتْرَض عليه جَمْهَرةٌ من النّقاد، وفي ذلك الثّناءِ الأبياتُ الذائعة:

أنا الذي نظرَ الأَعْمى إلى أدبي





وأسْمَعَتْ كلماتي مَنْ بهِ صَمَمُ



أنامُ مِلْءَ جُفوني عن شوارِدها





ويَسْهَرُ الخَلْقُ جرَّاها ويختصمُ





وهي مشهورةً محفوظة، إلى أَنْ جاءَ بالبيتِ المذكور:

يا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنا أَنْ نفارقهم





وجداننا كل شيءٍ بعدكم عَدَمُ





يقول له: لا يمكن أن يَحُلّ في قلبي من التقدير والمحبّة بعدك أَحد.

-وبلغ المتنبي ذروة العتاب حين قال:

كم تطلبونَ لنا عَيْباً فيعجزكم





ويكرهُ اللهُ ما تأتونَ والكَرَمُ



ما أَبْعَد العَيْبَ والنُّقصان عن شرفي





أنا الثريا وذان الشيبُ والهَرَمُ





قال أَحَدُ شُرّاح ديوانه: هذا تعنيفٌ (عتابٌ شديد) لسيف الدولة بسببِ إصغائه إلى حُسّاده، والطاعنين عليه.

وفي هذه القصيدة قال المتنبي بيتاً آخرَ مهمّاً في معنى الفراق اشتهر بَيْنَ النّاس، وصار كالمَثَل السّائر، والحكمةِ المحفوظة، وذلك قوله:

إذا ترحَّلْتَ عن قومٍ وقد قدَرُوا





أَلاَّ تُفارقهم فالرَّاحلون هُمُ!



شَرُّ البلادِ بلادٌ لا صديقَ بها





وشرُّ ما يكسبُ الإنسان ما يَصِمُ





ومعناه: إذا ترحَّلْتَ عن قومٍ قادرينَ على ألاّ يفارقوك، فالراحلون عنك هُمْ! أي: إذا رحَل الراحلُ عن قومٍ وهم قادرون على إسعاف رَغبته أو تلبية طلبه فتركوه مهملاً، وتغاضوا عن مُساعدته فهم الذين أخرجوه ورَحّلوه.

وقد ثبت هذا المعنى عند الناس، والنقاد لأبي الطيب لِحُسْنِ صياغته وبراعة أداء المعنى فيه. وإن كان مسبوقاً بالفكرة من قول "الحكيم": مَنْ لم يَرُدّك لنفسه فهو الرّاحلُ عنك. وإن تباعَدْتَ أنت عنه!!

وقال ابنُ وكيع التنيسي في كتابه عن سرقات أبي الطيب إن البيت مأخوذٌ من قول أَبي تمام:

وما القَفْرُ بالبِيد القَواءِ بل التي





نَبَتْ بي وفيها ساكِنُوها هي القَفْرُ





يقول إنَّ الأَرْض القاحلةَ ليست البوادي والصَّحارى بل البلاد التي لم أجد ترحيباً من أَهْلها، ولا رعايةً منهم!..

-وتبقى أبياتُ أَبي الطيّب هي الصَّدّاحة، والمحفوظة.
الرد مع إقتباس