عرض مشاركة مفردة
  #17  
قديم 29-05-2007, 07:28 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

بين الشورى والديمقراطية :

يستغرب من يطلع على أدبيات العرب، منذ أكثر من قرن من الزمان، وهم يذكرون الشورى مرة والديمقراطية مرة أخرى في كل صفحات كتبهم ومقالاتهم، وهم في الحقيقة لم يصلوا الى مسافة قريبة من أي منهما، وقد سبقتهم كل شعوب الأرض في الوصول الى صيغ من تداول الحكم في أقطارهم، في حين بقي العرب يراوحون في مكانهم، هذا إن لم يتراجعوا عما كانوا عليه.. ولعل أحد الأسباب الهامة في تأخرهم، هو ذلك الكم من الجدل البيزنطي فيما يجب أن نطبق في بلادنا: الشورى أم الديمقراطية؟

إن أنصار التبشير بالشورى، يتسلحون بفكرة مفادها أن الشورى تعني دوام الحضور للمشاورين، في حين أن الديمقراطية، وبمحورها الأقوى (الانتخابات) تتم للحظات إعطاء الصوت لأصحابه أو صاحبه، ثم اختفاء دور من اشترك بالتصويت الى تاريخ قد يصل الى سنوات، وأرى نفسي متشجعا للقبول بتلك النظرة، لكن مع توفر شروطها الموضوعية والذاتية ..

لكن قد تنطلق أصوات المبشرين بالشورى، من أجواء ضبابية، غير واضحة في تحديد شكل النموذج التاريخي (في الحكم) الذين يحلمون بالاقتداء به، فمنهم من يعتقد أنه امتد لزوال الحكم العثماني أي بقي لبدايات القرن العشرين، وهؤلاء ينقصهم الدراية في تفحص التاريخ الإسلامي، وتأتي شجاعتهم في إعلاء صوتهم، من خلال الظلامية التي تمر بها الأمتين العربية والإسلامية، بحيث يكون أي نموذج سابق أفضل من نموذجها الحالي، أو بأدنى تقدير أقل سوءا مما نحن فيه.. وهم محقون في ذلك من باب الدفع نحو التعبئة العامة، ولكن قولهم ينقصه الدقة والرؤية الواضحة، حتى في وصف ما حدث، وعليه سيكون قولهم تنقصه الدقة في التبشير بإجراءات عملية للخروج مما نحن فيه ..

لقد وردت لفظة (شورى) مرتين في القرآن الكريم، مرة في سياق قوله تعالى مخاطبا النبي صلوات الله عليه ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)*1 ومرة في سياق المدح والثناء على المسلمين (وأمرهم شورى بينهم)*2 .. وورودها في القولين (النصين) ليس فيه ما يقضي بأن كلمة (شورى) جزءا من الأصول المقررة في العقيدة الإسلامية الواجب إتباعها، إنما يجعل منها مبدأ استحسانيا يوصي المشرع بإتباعه حين تقتضي المصلحة العامة ذلك، أي أن مصلحة المجتمع المؤمن هي المرجح الوحيد في اختيار نمط الحكم اللازم..

إن الله عز وجل وهو يخاطب نبيه صلوات الله عليه ( وهو المعصوم) .. أراد أن يوصل للمؤمنين ذلك القول ليسيروا عليه في فترة ما بعد عهد النبوة .. ولو أردنا العودة الى ما بدأنا به الحديث، من أن الشورى أكثر حضورا من الديمقراطية، فإننا نستعيد تلك الصورة التي كانت سائدة في ذلك الوقت من الأطهار المؤمنين والذين يخشون ربهم ويلتزموا بتعليمات رسوله، وهم (كمؤسسة) أي الصحابة الحاضرون ومتابعون لمبعث الرسالة وقائمون على نشرها، في زمن دولة الدين، لن تتكرر تلك الصورة الاستثنائية، لا من حيث اللحظة التاريخية، ولا من حيث الشخوص، ولا من حيث تطابق الوضع الحضاري والجغرافي والثقافي و غيره ..

لا نجد خيرا من تمييز الإمام ابن تيمية بين مفهومي الخلافة والملك، فالخلافة لديه خلافة للنبوة مستوفية للشروط ومدتها ثلاثون عاما بعد وفاة الرسول الأكرم صلوات الله عليه، فتكون بذلك مقتصرة على حقبة الخلفاء الراشدين فحسب. أما من جاء بعد ذلك ممن تولى أمر الأمة فمفتقر في رأيه الى شروط الخلافة التي لم يعد لها من وجود إلا بالاسم فقط، أما واقع الأمر فمُلك أساسه الغلبة يعض عليه أهله بالنواجذ وهذا في رأي الإمام ابن تيمية حال الأمويين والعباسيين*3

لقد ذهب المنتقدون للشورى من المفكرين بأنه لا القرآن ولا السنة النبوية المشرفة ـ وفقا لآراء هؤلاء المفكرين ـ تناولا بالتحديد والتنظيم موضوعة السلطة وشكل الممارسة السياسية وأسلوبها في المجتمع الإسلامي. فليس هناك آية واحدة ولا حديث يمكن الجزم بأنه يرتب ترتيبا واضحا و حاسما ومحددا لنظام الحكم الإسلامي أو يحدد طبيعة وصفات الحكام وواجباتهم وحقوقهم من منظور وزاوية رؤية إسلاميين*4

بالمقابل ذهب مفكرون آخرون الى أن الإسلام (دين ودولة)، لأن الدين والدولة والدنيا فيه لا تنفصل عن بعضها، فالصلة المحكمة بين الدين والسياسة، هي من أبرز خصائص التاريخ الإسلامي ومميزاته الأساسية*5

إن منظري الخطاب السياسي العربي الإسلامي المعاصر تحديدا، ومعهم في هذا دون تلمس فارق يذكر، الغالبية من منظري الخطاب السياسي العربي يخضعون في استجاباتهم للتحديات لمنطق يستند الى قاعدتين مركبتين ومتلازمتين هما: (المرجعية القدسية التاريخية) و (الأنموذجية التاريخية المثالية)*6

وواضح تماما ذلك الحضور المفرط للتاريخ في هاتين القاعدتين. وهو حضور قابل للفعل إيجابا، تماما كما هو قابل للفعل سلبا، ويعتمد ذلك على الأسلوب والأدوات ونتائج التفاعل والانفعال به. فالتجربة التاريخية للحضارة العربية الإسلامية في حقبتيها النبوية والراشدية هي المرجع القِيَمِي المثالي للخطاب السياسي العربي عموما، والإسلامي تحديدا، وتأخذ تلك التجربة قدسيتها بارتباطها بالحضور الشخصي للرسول صلوات الله عليه، وحضور الصحابة الذين أحبهم الرسول ولازموه بأخذ ما أعطاهم من تفسير مباشر لنصوص القرآن ومن سلوك نبوي في إدارة الدولة الإسلامية في بداية تكوينها ..

لقد اعتمد الفكر السياسي الإسلامي، والعربي في كثير من الأحيان على الهدي بالنصين القرآنيين السابقين، وعلى السلوك النبوي الشريف الذي وصل عبر التاريخ للأجيال، والذي تجلت أمثلته في استشارة الرسول صلوات الله عليه، أصحابه. فقد شاور الرسول، أبا بكر و عمر بشأن أسرى بدر، وسأل الناس المشورة في غزوة بدر بشأن موضع نزول جيش المسلمين، وقبل مشورة سعد بن معاذ وسعد بن عُبادة بشأن فسخ الاتفاق مع قادة (غطفان) في غزوة (الخندق)، وقبل مشورة (سلمان الفارسي) بشأن حفر الخندق.. فقد كانت إدارته صلوات الله عليه تعتمد على المشورة مع احتفاظه بأحقية الأخذ بها أو رفضها.

ومن يتمعن في السلوك النبوي ومن بعده الخلفاء الراشدين، سيجد أن مصلحة عموم المسلمين، في الحرب والسلم، هي المحور الأساسي للاستشارة وأخذ الرأي، وهذا النهج هو ما اتبعه أبو بكر الصديق في حروب الردة، رغم ظهور آراء بالمشورة تخالف رأيه رضوان الله عليه. وكذلك سار عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه عندما كان يحض الناس على تقديم النصح والمشورة له وتقويم اعوجاجه إذا حدث..

بين الحاكم والمحكوم إسلاميا

يؤكد الفقيه السياسي (الماوردي) أن وحدة الأمة واستقرارها من أهم واجبات الحاكم، حتى لو وصفت قوته بالقوة القهرية من أجل ثبات تلك الوحدة، ولكنه يؤكد أيضا أن من واجبات الدولة حماية حقوق الفئات الأضعف، وكذلك نشر العدالة على أسس الشريعة الإسلامية*7 ومن الناحية النظرية، إذاً، لا بد من أن تؤسس الدولة السياسية على نظام (شوري) صحيح، أو بلغة حديثة، حكومة من الشعب تقوم على شكل ديمقراطي (شوري). فالمنظومة السياسية القائمة على الشورى تنص على المساواة، وحقوق الأفراد، وتقيد وظيفة الدولة بخدمتها لمصالح الجماعة. كما تنص هذه المنظومة على مسؤولية الحكم أمام الله، والجماعة، وأحكام الشريعة.*8

إن النموذج السياسي الذي قدمه معظم الفقهاء من أجل التنظير لدور مؤسسة الخلافة، هو نموذج دولة الرسول صلوات الله عليه، التي وحدت إطار الأسس النظرية السياسية، من شورى، وإجماع و عقد وبيعة، وحرية المعتقد والأفراد، والذي حدده ب(الصحيفة) التي أصبحت بمثابة دستور الدولة الإسلامية الأولى والتي أكدت على: 1ـ تنوع المجتمع وتعدد فئاته. 2ـ توحده كدولة سياسية بقيادة الرسول صلوات الله عليه، الذي يرسم سياسات الحرب والسلام والذي يعقد المعاهدات والاتفاقيات. 3ـ اعترافه بحرية المعتقد والممارسة للمجتمعات الدينية المختلفة. 4ـ القبول بالواقع القبلي والعشائري، القاعدة الاجتماعية والاقتصادية لتلك الدولة. 5ـ اعتبار المجتمع اليهودي جزءا من المجتمع السياسي ومشاركته في الحرب والسلم مع المجتمع المسلم. إذ أن ذمة الله ملزمة لكل الأفراد والمجتمعات. 6ـ اُعتبر النبي صلوات الله عليه الحَكَم بين الفئات المشكلة للمجتمع عند التنازع*9

نقطة تقييم أولية

إذا كان تعريف الديمقراطية المتردد بين الناس قد جرى عليه انتقادات واسعة، إذ كان : (حكم الشعب وبالشعب، أو سلطة الشعب، حسب التعريف اليوناني القديم، والأداء الروماني) فمن ينتقد هذا التعريف، يتذرع بأن مدينة روما سنة 24 ق م كان تعداد سكانها 214 ألف نسمة وأن سكان المدينة (الدولة) يعرفون بعضهم*10، والانتخاب يقتصر على الأحرار من الذكور، وقد سبق أهل اليمن القديم (دولة كمنهو وقتبان) اليونانيين والرومان في سلوك ديمقراطي مشابه بل ومتقدم عليه، عندما كانوا يختارون (مزودهم) من ممثلي العشائر والمهن ودور العبادة*11 وهذا الأمر قد تغير في العصر الراهن، بحيث يستوجب تغيير التعريف ليصبح : ( إن الديمقراطية، أسلوب لتمكين الشعب من المشاركة في صياغة القرارات المتعلقة بشؤونه ومراقبة تنفيذ هذه القرارات عبر هيئات ممثلة له ومنتخبة منه .. وهنا يأتي دور الأحزاب والنقابات والهيئات السياسية والمدنية المختصة في حفظ الأخلاق والتراث والبيئة والاقتصاد في مختلف مناطق الدولة) ..

وأظن أنه ليس للمطالبين بالشورى انتقادات وجيهة في رفض ذلك التعريف، حيث أن الشورى نفسها، والتي يعتبر مجتمع المدينة المنورة في صدر الإسلام هو النموذج التاريخي المرجعي لحججها، قد تغير هو الآخر فنحن نتكلم الآن عن مجتمعات أوسع وبقاع مختلفة في طبيعة سكانها ونشاطهم ..




هوامش
ــــ
*1ـ آل عمران ـ الآية 159
*2ـ الشورى ـ الآية 38
*3ـ منهج السنة النبوية/ابن تيمية/ المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية/ 1331هـ/ج2
*4ـ نظرية الإمامة/ د احمد محمود صبحي/ القاهرة/دار المعارف1969 ص 55
*5ـ منهج الإسلام في الحكم/ محمد أسد/بيروت/دار العلم للملايين/ط2/1964
*6ـ د. علي عباس مراد /مجلة دراسات عربية/نوفمبر/ديسمبر1993/ص 22
*7ـ الأحكام السلطانية والولايات الدينية/أبو الحسن علي بن محمد الماوردي / القاهرة/ مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1973 ص 5
*8ـ مجلة المستقبل العربي/عدد265/آذار/مارس 2001/ د أحمد الموصللي ـ أستاذ العلوم السياسية والدراسات الإسلامية في الجامعة الأمريكية ـ بيروت، وهي بالأصل ورقة قدمت لمؤتمر القدس في الدوحة في 26ـ31/10/2000
*9ـ المصدر السابق ص 19
*10ـ منير شفيق/ مجلة دراسات عربية/بيروت/ دار الطليعة/ عددي 5و6/1996/ ص4
__________________
ابن حوران