عرض مشاركة مفردة
  #58  
قديم 29-07-2004, 01:37 PM
فارس ترجل فارس ترجل غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2004
المشاركات: 563
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

إزالة اللبس


قال تعال في سورة التوبة " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " (التوبة : 73)

ذكر الطبري رحمه الله في تفسيره بإسناده إلى ابن مسعود رضي الله عنه ، في قوله تعالى "جاهد الكفار والمنافقين" ، قال [ابن مسعود] : بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه .. وقال آخرون : بل أمره بجهادهم باللسان ... [بسنده] عن ابن عباس ، قوله تعالى "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان ، وأذهب الرفق عنهم ..

قال ابن العربي: قال علماء الإسلام ما تقدّم ، فأشكل ذلك واستبهم ، ولا أدري صحة هذه الأقوال في السند .. أما المعنى فإن المعلوم في الشريعة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يجاهد الكفار بالسيف على اختلاف أنواعهم ، حسب ما تقدم بيانه .. وأما المنافقون فكان مع علمه بهم يُعرض عنهم ، ويكتفي بظاهر إسلامهم ، ويسمع أخبارهم فيُلغيها بالبقاء عليهم ، وانتظار الفيئة إلى الحق بهم ، وإبقاء على قومهم ، لئلا تثور نفوسهم عند قتلهم ، وحذراً من سوء الشنعة في أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه : فكان لمجموع هذه الأمور يَقبل ظاهر إيمانهم وبادئ صلاتهم ، وغَزوهم ، ويكل سرائرهم إلى ربّهم ، وتارة كان يبسط لهم وجهه الكريم ، وأُخرى كان يُظهر التغيير عليهم ، وأما إقامة الحجّة باللسان فكانت دائمة ...." (إلى آخر كلامه رحمه الله ، مختصراً)

واختار الطبري رحمه الله قول ابن مسعود ، فقال : قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن مسعود ، من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين ، بنحو الذي أمره به من جهاد المشركين . فإن قال قائل : فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم ؟ قيل : إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر ، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك . وأما من إذا اطلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها ، أنكرها ورجع عنها وقال : إني مسلم ، فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه ، أن يحقن بذلك له دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك ، وتوكل هو جل ثناؤه بسرائرهم ، ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر ; فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بهم واطلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صدورهم ، كان يقرهم بين أظهر الصحابة , ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبه الحرب على الشرك بالله ; لأن أحدهم كان إذا اطلع عليه أنه قد قال قولا كفر فيه بالله ثم أخذ به أنكره ، وأظهر الإسلام بلسانه ، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه ، دون ما سلف من قول كان نطق به قبل ذلك ، ودون اعتقاد ضميره الذي لم يبح الله لأحد الأخذ به في الحكم وتولى الأخذ به هو دون خلقه .. (انتهى) ..

لقد اختلف العلماء في قتل المنافقين ، فمنهم من أجاز منابذتهم بالسيف ، ومنهم من لم يُجزه ورأى جهادهم باللسان والبيان ، وقد اختصر هذه الأقوال ، وأضاف إليها في تفسيره الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله ، فقال " أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة ..
وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف :
1- سيف للمشركين " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين "
2- وسيف لكفار أهل الكتاب " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "
3- وسيف للمنافقين " جاهد الكفار والمنافقين "
4- وسيف للبغاة " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله "

وهذا يقتضي [والكلام لابن كثير] أنهم يجاهَدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق وهو اختيار ابن جرير ، وقال ابن مسعود في قوله "جاهد الكفار والمنافقين " قال بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه . وقال ابن عباس أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم ، وقال الضحاك جاهد الكفار بالسيف واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم ، وعن مقاتل والربيع مثله : وقال الحسن وقتادة ومجاهد : مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم .. وقد يقال إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال والله أعلم . (انتهى كلام ابن كثير رحمه الله) ..

والصواب – في نظري – والله أعلم ما قاله ابن كثير رحمه الله في آخر كلامه أنه "لا منافاة بين هذه الأقوال : لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال ، والله أعلم" ..

وللمنافقين أحوال :
فمنهم من هو ظاهر الإسلام لا يُظهر نفاقه للناس إلا على نطاق ضيّق جداً ، فهذا يوكل سرّه إلى الله ويُعامل معاملة المسلمين : لجهلنا بحاله ، فلا نتّهمه ولا نُشنّع عليه ..
ومنهم من يُظهر نفاقه ولاكن لا يضر المسلمين ولا يؤذيهم ، فهذا يُعامل معاملة المسلم في الأحكام العامة مع النصح والبيان وإظهار "الكفهرة" حسب المصلحة ..
ومنهم من يُظهر نفاقة على مستوى كبير ، وربما خذل المسلمين وأضرّ بهم في أوقات حرجة (كما فعل ابن سلول في غزة بدر وأحد وغيرها) ولكنه لا يزال في صفوف المسلمين ويزعم أنه منهم ، فهذا يُنظر فيه : فإذا كان في قتله مصلحة للدين ، قُتل ، وإلا تُرك مع معاملته وفق ما تقتضيه المصلحة (وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع منافقي المدينة) ..
ومنهم من يُظاهر الكفار على المؤمنين ويواليهم وينخرط في صفوفهم لقتال المسلمين ويعينهم على قتالهم بالمال والنفس ، فهذا لا شك أننا نقتله إن ظفرنا به (إن اقتضت مصلحة الدين ذلك) لإظهاره الكفر الصراح ولمحاربته المسلمين ، وهذا ما أفتى به ابن تيمية في شأن من انضم إلى صفوف التتار ممن زعموا أنهم مسلمون ، وكفر هذا محل إجماع عند المسلمين لأنه والى المشركين ضد الإسلام وأهله ولاء ظاهرا ..

هذا في شأن المنافقين .. ولكن هناك فرق بين المنافق والمغرّر به : فالمنافق كافر أصلي يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر (وهذا هو النفاق الأكبر) ، قال "الشيخ محمد التويجري" في كتابه "أصول الدين الإسلامي" : "والمنافقون كفار بين المسلمين ، البغضاء تبدو من أفواههم ، والحقد يملأ قلوبهم ، ولكن الله لهم بالمرصاد ، كما قال سبحانه : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط " (آل عمران :120) . (انتهى) ..

أما المُغرر به أو الجاهل : فهو مسلم يظنّ أنه على حق أو على طاعة وهو ليس كذلك ، ولكنه باقٍ على إسلامه ، ولا بد له من بيان وإزالة للّبس الذي في صدره لأنه قد يكون أشد إخلاصاً للدين من كثير من الناس وأعظم عاطفة ، إلا أنه جاهل أو مغرّر ..

كثير من عامة المسلمين من هذا النوع : فكثير منهم لا يُدرك أبعاد الأمور ولا مآلاتها ، ولا يعرف الأحكام الشرعية المترتبة على أعماله حق المعرفة ، وهم تبع لعلمائهم في أمور دنياهم ودينهم ، والمتتبع لأحوال علماء السلف مع أمثال هؤلاء يجد أنهم لم يُكفّروهم أبداً ولم يستحلّوا منهم ما يستحلّون من الكفار والمنافقين ..

فهؤلاء الخوارج الذين كفّروا خير من كان يمشي على ظهر الأرض في زمانهم "علي بن ابي طالب رضي الله عنه" وكفّروا كاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، وكفّروا الصحابي المجاهد عمرو بن العاص رضي الله عنه بل كفّروا المسلمين أجمع (إلا من دخل في أمرهم) ومع ذلك لم يُكفّرهم الصحابة ولم يبدأهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالحرب إلا بعدما بدأووه هم ، ولم يُجهز على جريحهم ولم يسبي نسائهم لعلمه بأنهم متأولون جُهّال ، وقد حاجّهم الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنه فرجع أكثرهم إلى الحق لأنهم طُلّاب حق ..

وقد قال بعض السّلف في شأن الرافضة "أئمّتهم كفّار وعامّتهم ضُلّال" ، وهذا لأن عامتهم سفهاء قد عطّلوا عقولهم واتبعوا أئمتهم فأضلّوهم ، فلا بد لهؤلاء من بيان ودعوة قبل الحكم عليهم ، ولا بد لهذا البيان أن يبلغ نصاباً معيّنا بحيث لا يكون لهم بعده مخرجاً ولا حجّة ، لأن هؤلاء يظنون أنهم مسلمون متّبعون للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال العلماء هذا في شأن أكثر الفرق والمذاهب البدعية ..

وقد يكون الذي رفع علينا السلاح وحاربنا من صُلحاء المسلمين ومن خيارهم ، ولكنه مُتأول : كما فعلت عائشة أم المؤمنين والزبير وطلحة ومعاوية وعمرو (رضي الله عنهم أجمعين) مع علي بن ابي طالب خليفة المسلمين رضي الله عنه ، فعلي قاتلهم ولم يُكفّرهم ولم يستحل أموالهم ولا سبى ذراريهم ، وما زاد على أن قال "إخواننا بغوا علينا" ، وكان قتاله دفاعاً عن النفس ، وعن هيبة الخلافة ، ولمصلحة الدين ..

ليس من مذهب أهل السنة والجماعة استحلال الدماء والقتل إلا بالحجّة القاطعة والدليل الظاهر الذي لا لبس فيه ولا غموض .. ولا يكون القتل في الدين إلّا لإقامة الدين ، فليس كل من آذانا وقاتلنا نقتله إن ظفرنا به ، بل لابد أن تكون هناك مصلحة للدين في قتله ، وهذه المصلحة يقدرها القادة والعلماء الربّانيين ، وقد قال علي رضي الله عنه لقاتل الزبير "بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار" مع أن الزبير رفع عليه السيف وقاتله ، فلم يكن قصده قتله ، لأنه ليس في قتل الزبير مصلحة للدين ، فهو حواري رسول الله ، تأوّل فأخطأ ..


( يتبع )