عرض مشاركة مفردة
  #12  
قديم 17-03-2006, 01:11 AM
قناص بغداد قناص بغداد غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2005
المشاركات: 740
إفتراضي

قال الحافظ في الفتح (10/128): (وقوله: (من ضر أصابه) حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي، فإن وجد الضر الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي، ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان (لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا) على أنّ (في) في هذا الحديث سببية أي بسبب أمر من الدنيا، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة: ففي (الموطأ) عن عمر أنه قال: (اللهمّ كبرت سنّي وضعفت قوّتي وانتشرت رعيّتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط). وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن عمر وأخرج أحمد وغيره من طريق عبس ويقال عابس الغفاري أنه قال: يا طاعون خذني، فقال له عليم الكندي: لم تقول هذا ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنّينّ أحدكم الموت)، فقال: إنّي سمعته يقول: (بادروا بالموت ستاً: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم) الحديث. وأخرج أحمد أيضاً من حديث عوف بن مالك نحوه وأنه قيل له: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما عمر المسلم كان خيراً له) الحديث، وفيه الجواب نحوه. وأصرح منه في ذلك حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود وصحّحه الحاكم في القول في دبر كل صلاة وفيه (وإذا أردت بقوم فتنةً فتوفّني إليك غير مفتون). أهـ

فإذا كان تمني الموت - مجرد التمني - حرام بسبب الضر الدنيوي، بخلاف تمنيه إن وجد الضر الأخروي، دل ذلك أنّ الضر الأخروي لا يدخل صاحبه في النهي الوارد في هذا الحديث.

وهكذا في مسألتنا هذه، وهي ما تسمى بالعمليات الانتحارية أو تعرف بالعمليات الإستشهادية، - والعمليات التي تمّت في أمريكا هي منها بلا شكّ - إن كان الذين قاموا بها مجاهدين في سبيل الله - فلا يمكن حملها بالأدلة الناهية عن الانتحار ذلك أنّ تلك الأدلة وردت فيمن قتل نفسه بسبب ضر دنيوي لا أخروي أو بسبب الحرص على الدنيا والمال فيحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى تلف النفس وهلاكها أو كان بسبب مرض شديد أو في حال غضب أو ضجر أو خوف أو غمّ أو جزع أو عدم صبر، فيستعجل الموت فيقتل نفسه.

أما من قتل نفسه مجاهداً في سبيل الله يهدف من وراء ذلك النكاية في أعداء الإسلام وإثخان الجراح بهم وتكبيدهم الخسائر الباهظة، أو إدخال الرعب في قلوبهم، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار حين يشاهدون جرأة المسلم وشجاعته في سبيل الله، أو كان قصده تجرأة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه، أو يكون قصده إرهاب أعداء الله ليعلموا صلابة المسلمين في الدين، أو نحو ذلك من المقاصد الحسنة، فلا يتناوله عموم النهي الوارد في حرمة قتل النفس لاختلاف المقاصد والنيات، فمقصد الذي يقوم بالعمليات الإستشهادية هو مقصد أخروي يبتغي بذلك وجه الله، وإنما يفعل ذلك طلباً للشهادة وللقتال في سبيل الله، مع غلبة ظنه على تحقق المصلحة الشرعية من مثل هذه العمليات، فتلف النفس لإعزاز الدين ولإهلاك الكافرين مقام شريف مدح الله به المؤمنين في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...) الآية [التوبة: 111].

يوضح ذلك أنّ الأحاديث التي ورد فيها الوعيد على قاتل نفسه ليست في الجهاد والتعرض للشهادة، إنما هي في حق من قتل نفسه بحديدة أو سمّ تحساه أو استعجل الموت أو بسبب ضر دنيوي نزل به كما أسلفنا.

فمنها ما رواه البخاري في صحيحه (الفتح 10/247) في كتاب الطب باب شرب السمّ والدواء به وما يخاف فيه والخبيث برقم (5778) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تحسّى سمًّا فقتل نفسه فسمّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً).

يتبع
__________________




لله در الفضيل بن عياض حيث يقول : لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين . وأحسن منه قوله تعالى : ( ولقد صــدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً مـن المؤمنين)