عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 16-07-2003, 03:36 PM
أبو معاذ أبو معاذ غير متصل
العبد الفقير
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2001
المشاركات: 87
إفتراضي قصة قصيرة .. أولئك الرجال

قصة قصيرة .. أولئك الرجال


لم يستطع النوم تلك الليلة وهو يفكر في كلمات زوجته التي سمعها منها ليلة أمس: "يا أبا محمد، لقد نفد في فترة مرضك الذي ألزمك الفراش ما كان لدينا من نقود، وإني والله أعلم أنّك لم تعافَ تماماً، لكنّك تعلم أنّ لك أولاداً تراهم في أجسادٍ نحيلة وأفواهٍ جائعة لم تذق الطعام منذ يومين، وليس لهم بعد الله سواك، فانظر ماذا ترى أعانك الله". وارتفع النّداء لصلاة الفجر وهو على هذه الحال، فعقد العزم على أن ينطلق لأداء الصلاة في المسجد متحاملاً على نفسه متناسياً آلام مرضه، ثم يتوجه بعدها إلى سوق الخضار المركزيّ الذي يعمل فيه حمّالاً ويمثّل له مصدر الدخل الوحيد بعد تركه عمله السّابق المريح ذا الدّخل الجيّد في شركة الدّخان منذ أربع سنوات -هي بالضبط فترة التزامه- حين أيقن أنّ "من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه".

وفي سوق الخضار لم تسعفه صحته الضعيفة في حمل كثير من الأحمال، فاكتفى بالصّغار منها، فهو قنوع لم يكن يريد في هذا اليوم أكثر من مبلغ متواضع يسدّ به رمق أولاده، وفيما كان يسعى لجمع هذا المبلغ رأى محفظة على الأرض فتناولها وقلّبها وإذا فيها مبلغ يفوق المئتي دينار فأيقن أنها لأحد كبار التّجار، وصدّقت البطاقة الشخصية الموجودة في المحفظة ظنّه، فأسرع بالمحفظة إلى صاحبها الذي يعرفه جيداً، فشكره على أمانته وأراد أن يكافئه بجزء من المبلغ، احتار أبو محمد قليلاً بين أخذها وردّها لكنّ حيرته لم تطل فنفسه العفيفة أبت أخذ المكافأة –رغم حاجته إليها- لأن الأمانة واجب شرعيّ جزاؤه عند الله تعالى لا عند البشر.

أعياه التّعب فأراد الاستراحة وشراء شطيرة صغيرة وعلبة عصير علّهما تقيمان صلبه، لكنّه تذكّر أبناءه الجوعى فتحامل على نفسه مرةً أخرى وقال: "هم أطفال صغار وهم أولى بالطعام منّي"، فاستمرّ في عمله المتعب إلى ما قبل أذان الظهر بساعة وهو موعد انتهاء العمل في السّوق عُرفاً، جمع ما لديه من نقود فإذا هي ديناران وثلاثون قرشاً، فحمد الله تعالى على ما أنعم وقفل عائداً إلى بيته مؤثراً المشي على ركوب الحافلة توفيراً لأجرتها فبيته لا يبعد عن السوق غير ثلاثة كيلومترات!

كان ينوي شراء شيء من الطعام لأبنائه قبل صلاة الظهر، لكنّه لشدة مرضه وصل الحيّ قبل إقامة صلاة الظّهر بقليل فتوجّه إلى المسجد لأداء الصّلاة، فليس صاحبنا بالذي يضيع تكبيرة الإحرام لأجل عرضٍ من الدّنيا، ثمّ إنّ باستطاعته أن يشتري لهم ما شاء من الطعام بعد الصّلاة، وهو على كل حالٍ طعام بسيط لن يعدو شيئاً من الحمّص والفول.

أقيمت الصّلاة فصلّى الظهر مع الجماعة في خشوعه المعتاد رغم انشغال قلبه قبل الصّلاة بحال أبنائه. وبعد السّلام انشغل في تسبيحاته ولم يصرفه عنها إلا وقوف رجل كبير السنّ رثّ الثّياب قد تقطّعت به السّبل يسأل أهل الخير العون والمساعدة، فرقّ له قلبه وعزم على مساعدته، فتراءت في مخيلته على الفور صورة أبنائه الجوعى يتقافزون حوله يسألونه عمّا عاد به إليهم، فقال في نفسه: "الأقربون أولى بالمعروف، سأنفق المال على أبنائي وسيجد هذا العجوز المساعدة من الكثيرين غيري"، فلما همّ بالخروج واقترب من العجوز الذي جلس إلى جانب الباب لم يستطع أن يجاوزه حتى أخرج كلّ ما في جيبه وأعطاه إياه، لأنّ ما عند الله خيرٌ وأبقى، وربّ درهم سبق مئة ألف درهم.
****
__________________
إن صافحت يدهم أيدي صهاينة *** حسبي من الفخر أني ما مددت يدي
الرد مع إقتباس