الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
  #13  
قديم 02-03-2006, 08:44 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(12)

لم يكن لفظ ( قاضي) في القديم الا لفظا يسبب لسامعه حالة من الرهبة والاضطراب الوقتي عند سماع اللفظ .. حتى عندما كان يتم تكليف أحدا بالقضاء فان هناك الكثير من الذين يكلفون بذلك ، يمتنعون أو يتمنعون عن القبول بهذا التكليف ، خوفا من أنهم لن يعدلوا .. وقد يكاد القضاء العادل و الحاسم يتناسب طرديا مع قوة الدولة و شيوع الرخاء فيها ، و عندما يتهلهل القضاء و يسوء ، ينفقد معه الشعور بالاطمئنان و يكثر الفساد وتعم الفوضى ..

في العصر الحديث ، وفي بلادنا العربية ـ مع الأسف ـ فان من يتولى القضاء هم خريجو كليات الحقوق ، و القليل منهم بل و النادر من يذهب لتلك الكليات عن رغبة صادقة و استعداد مسبق . و الأكثرية هي من حصلت على شهاداتها من خلال الدراسة بالمراسلة ، او من خلال تنسيب الجامعات أو الجامعات الأهلية التي انتشرت كانتشار الإشاعة ..

في حين يشكل القضاء و التعليم و الأمن العام ، أعمدة الحفاظ على هوية الأمة الحديثة و ضمانا أكيدا لتقدمها .. و تصنع تلك المهن الثلاثة تمهيدا عظيما أمام المهن الأخرى ..

***********

دخل عليه و هو في أثناء محاكمته لعينة من المتخاصمين ، فوقف القاضي وتقدم يعانقه ، ويطلب منه الجلوس على أريكة بجانب المنضدة التي يجلس خلفها القاضي ، و الخصوم في حالة وقوف .. ويضغط القاضي على زر ليسمع صوت الجرس في الخارج ، فيدخل رجل في نهاية الخمسينات ، بخطى ثقيلة ووجه لا ملامح واضحة فيه ، فلا تعرف ان كان يرهب القاضي ، أم يتعامل معه برتابة العمل ، أم لم يكن متحمسا لعمله ، فلا يسأل ان كان القاضي يرضى عنه أم لا ..

طلب القاضي بإحضار ثلاثة فناجين من القهوة ، الفنجان الثالث كان لمحامي يزيد عمره عن عمر القاضي بعشرة سنين ويجلس على المقعد الآخر أمام منضدة القاضي ..

في هذه الأثناء ، التقط الخصوم أنفاسهم ، و استفادوا من تلك البرهة ، ليهيئوا صياغة الأجوبة على أسئلة القاضي ، في حين يجلس على طرف المنضدة شاب يكتب الأسئلة والأجوبة كما يمليها عليه القاضي .. ولم يظهر على وجهه أنه قد تأثر لعدم شموله بالقهوة المطلوبة ، فكان يركز على الحروف التي يكتبها ، كي لا يتعرض للتوبيخ ، واذا ما أخطأ في شيء وهو نادرا ما يحدث ، وانما الذي كان يخطئ هو القاضي نفسه الذي كان يستدرك بين الحين والحين ، بإضافة لا بل كذا ..

طلب القاضي من المتخاصمين ، أن يتصالحا وينصرفا ، أو أن يحولهما للتوقيف ، فوافقا على الفور ، و إن كان أحدهما يحس بالغبطة بوضوح أكثر ، وكان ميكانيكي سيارات ، فاستوقفه القاضي بعدما هما بالانصراف ، و أعطاه مفتاح سيارته و طلب منه أن يرى ما بها ، حيث لم تعجبه حركة الماتور ..

بعدما انصرف المتخاصمان و نهض المحامي وخرج هو الآخر ، قبل أن تصل القهوة ، أخرج القاضي علبة لفافات التبغ و قدم واحدة منها لصاحبنا ، دخل بهذه الأثناء شاب في الثلاثين من عمره ، فسأله القاضي عن اسمه .. فأجاب بشكل اعتيادي ، ولكنه بدلا من يسبق كلامه بسيدي ، قال استاذ ، فلم يعجب القاضي تلك العبارة ، بل أخذ يطلب من الشاب أن يعدل من وقفته .. و

كان القاضي يتكلم خلال تلك الساعة بطريقة ، لم يكن صاحبنا يدرك أسبابها ، فكان القاضي يجعل الحرف الأخير من جملة ، يتدلى من بين شفتيه كذيل ، مع ترك المجال لأسنانه السفلى والتي كانت نقاط تماسها مسودة بفعل الدخان ..

لقد حاول صاحبنا أن يصنف هذا السلوك بالزهو ، و التباهي ، وقد يكون مصدر هذا الزهو ، آت من كثرة من يتشفع عند القاضي ليتكفل موقوفا ، أو يؤجل قضية ، أو يسهل مهمة أحد .. و كان المتشفعين كثر فمنهم من له صفة حكومية ومنهم من له صفة اجتماعية ومنهم له صفة اقتصادية .. وهذا قد يكون أعطى للقاضي هذا الإحساس بأهميته الإستثنائية !!
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس