الموضوع: يزة
عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 24-02-2006, 02:55 AM
عبدالحميد المبروك عبدالحميد المبروك غير متصل
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2005
المشاركات: 172
إفتراضي يزة 3

يزة 3


كانت حائرة حزينة لا تدري ماذا تفعل بنفسها .. هل تترك هذا البيت الفسيح الجميل الذي قضت فيه أجمل سنوات العمر..حيث توحي كل زاوية من زواياه وكل بقعة من بقاعه بذكرى جميلة ..جدرانه توحي لها بصرختها الأولى ..أعشاب الحديقة توحي لها بخطواتها الأولى ...أشجارها تذكرها بأبيها وأخيها وزوجها الأول وأفراد الأسرة كلها وجلسة الصباح والمساء... كل شيء في هذا البيت القابع فوق هذه التلة يذكرها بالأيام الحلوة التي مازالت تعيش في رأسها وولت ولن تعود.
ومدت بصرها تتأمل أشجار الحقل ، زيتونه وكرومه ولوزه وعنبه وخوخه...كان الحقل كله أخضرا . فأي جنان هذا الحقل ...وأي جريمة ترتكبها لتتركه يتحول الى حطب يابس ...وماذا صنع ليلقى هذا المصير..
انتهى العام الأول ..وتلاه العام الثاني والثالث..... وتوالت حياتها هكذا بعد الطوفان الذي جرف أمامه كل شيء في ذلك البيت ..حيث توفي زوجها وذهب أبناؤه الى جدهم، عمها.....يا له من عالم مجنون ...يحصد أسرة كبيرة بكاملها في زمن وجيز...يفرق شملا ويضم آخر...ويستحدث روابط أخرى لم تخطر على بال بشر...
استسلمت لآلامها في ذلك البيت الفسيح وذلك الحقل الجميل ، ولكنها ما لبثت أن نهضت من مكانها فجأة وهي تصيح ، لا ، لا ، لا ، لن أستطيع الاستمرار في هذه الحياة والوحدة والألم ...غدا أذهب الى حيث يعيش أبنائي ...أريد أن أكون معهم وقريبة منهم...تغلب الحنين على الأحزان ...وطغت عاطفة الأمومة على المادة ...والرفاهية...وهناك على بعد مئات من الكيلومترات حيث يعيش العم، جد الأطفال في تلك المدينة الأخرى ، وتلك القرية الأخرى التي اختارها الجد ملجأ لأحفاده بعد أن مات أخوه ولحقه ولده الوحيد وخلف ورائه ثلاثة أطفال وأمهم ابنة عمه اليتيمة ، اتجهت الأم بعدما صدها واقع الحياة...
وذهبت وكابدت عناء السفر حتى وصلت القرية حيث يوجد العم ، وما ان وصلت البيت وفتحت لها الباب تلك المرأة العجوز ، زوجة عمها الثانية ، وعلى بعد خطوات قصيرة رأتهم...أطفالها الثلاثة الذين افتقدتهم سنين عديدة...فانتصر حنينها اليهم على الأحزان والطمع الذين كادا أن يعصفا بها...
كان الأطفال يلتفون حول جدهم وقد تعلقت عيونهم به حتى أنهم لم يحسوا بقدومها ...فقد كان يروي لهم في تلك اللحظة قصة من قصصه الكثيرة عن صراعاته مع الطبيعة في خضم الحياة التي تعودوا أن ينصتوا اليها كل يوم ..نادتهم فأقبلوا عليها يمطرونها قبلا ودموعا. فاختلطت القبلات بالدموع والفرح بالحزن..
أحس الرجل بالضيف الجديد الذي حل بالبيت ، ولم يكن في حاجة لأن يسأل عن شخصه ، فقد سمع صوت ابنة أخيه ، زوجة ابنه وأم أحفاده.

واتجهت الأم الى حيث كان يجلس عمها الذي تجاوز الثمانين من العمر كالجبل الأشم ...حيث تركت السنوات آثارها بوضوح على وجهه الذي امتلأ بالتجاعيد ، واقتربت منه ومد اليها يده مصافحا فأمسكت بها ، وراح يهزها في قوة وحرارة ، ثم راحت تقبله على رأسه ويده...ثم دعاها للجلوس بقربه...وأردف قائلا ...كنت أتوقع مجيئك قبل هذا بكثير ...لقد افتقدك أطفالك يا لويزا ...قالها وقد ارتسمت على وجهه المعبر ابتسامة رقيقة تنم عن ما كان يعتمل في صدره من فرحة بعودة الأم الى أطفالها ، وعودة ابنة أخيه اليه ، بعد الفجوة التي سببها الشامتون اثر وفاة ابنه زوجها ، والذي سبقه وفاة أبيها وأمها ولحقت به وفاة أختيها. ثم نادى أصغرهم واحتضنه بشدة وهو يقول هذه أمك ...هذه هي أمك..
ثم ساد صمت عميق أرجاء الغرفة...وسالت دمعة من عيني الأم لم تستطع أن تحبس صوتها... فلقد كانت تتوقع أن ترى أي شيء غير هذا في عمها البصير الكسيح...شخص يصاب بالعمى ، ويفقد القدرة على الحركة ، ومع هذا ينفذ من خلال هذه الغمامة السوداء ليرى الدنيا بعيون الأطفال الصغار الذين أحبهم وأحب الحياة معهم ، ومن أجلهم تزوج مرة أخرى في هذه السن المتأخرة حتى يحيطهم بحنان الأم ...بحنان الأنثى الطبيعية...ويبعث في نفسه الروح والأمان...
وفي وسط هذا السكون قطع صوته الجهوري الصمت ليسأل زوجة ابنه ، عن حياتها وماذا صنعت بها الأيام خلال محنتها.
لم تكن تتوقع من رجل يعيش الألم والشقاء هذا التساؤل ...لكنها جلست بين يديه وصارت تحكي له عن كل التفاصيل...وكيف اختارت لنفسها تلك الحياة الماضية وسط جدران ذلك البيت الصماء ، ذلك لأنها لم تحتمل الافتراق عنه بسبب أنه صار جزءا منها...حتى صحت في ذلك اليوم من غفوتها التي أخذتها سنينا طويلة لتسأل نفسها...
هل يمكن للانسان أن يعيش مع الماضي الى الأبد ؟!
وعندما جاءها الجواب حملت نفسها وجاءت تبحث عن المستقبل عند أطفالها وفلذات كبدها الذين افتقدتهم.

كان العم الجد العجوز ينصت اليها باهتمام وابتسامة رقيقة تعلو محياه ولا تفارق شفتيه لحظة واحدة ، حتى اذا ما انتهت من حكايتها، قال : ــ
أنا كما ترين يا ابنة أخي ، رجل حطمته الحياة بكل قسوة ، فبعد فقدان شقيقي والدك فقدت ابني الوحيد زوجك ثم تلته والدته...وقبله أمك ، ومع هذا فما زلت أحب الحياة، لأنني ما زلت آمل في غد أفضل أتمنى أن يمتد بي العمر كي أراه. قد تندهشين اذا قلت لك أنني لم أشعر باليأس يتطرق الى قلبي لحظة واحدة رغم الأحداث التي عشتها وهي تتوالى علي الواحدة تلو الأخرى وفي زمن قصير جدا..حتى عندما حملوني الى المستشفى ، وكنت أعلم أنني سأصبح انسانا معاقا لن يقوى على الوقوف ولا على البصر... وكنت أعرف أن الحياة بالنسبة لي ستكون ظلاما مستمرا وأحسست بأنه لم يعد لي شيء أعيش من أجله بعد تلك الأحداث كلها ....لكنني لم أيأس من رحمة الله. وانني ما زلت أتعلق بهذا الخيط الرفيع من الأمل في مستقبل أفضل من أجل هؤلاء الصغار، فوجدت هذه المرأة الفاضلة فتزوجتها بعد أن تعرفت بها في المستشفى ، فكانت تشرف على الأطفال في البيت وعلي في المستشفى وكان ابنها فراري رغم ظروفه نعم الابن لي ونعم الأب لهؤلاء الأطفال رغم ما يعانيه من شقيقه جوردانــــــــــــــــي.
وسكت الجد ، لكن الأم استحثته على اكمال حديثه راجية اياه أن يستمر لأنه لا بد أن عنده أشياء أخرى يريد أن يقولها . فقد شعرت بأن كل شيء حولها يبعث دفئا لم تألفه...وأن هذا الدفء لم يكن مصدره المدفأة الموقدة في الحجرة ولكنه كان في كل شيء من حولها وفي كل كلمة كانت تخرج من شفتي هذا الرجل الذي كان يمتليء بالحياة ، وهو الكسيح الضرير ...المعاق الذي يعيش مع أحزانه..ومن تلك النظرة الطيبة البريئة من أبنائها والوجه الوديع لزوجة جدهم...
يا ابنة أخي انه فعلا عندما نشارك الآخرين حياتهم ونهتم بهم ونساهم معهم...وعندما نعيش آمالهم وأحاسيسهم وآلامهم نحس بمعنى الحياة...فالحياة حب وود وصفاء ومشاركة وأحاسيس، والمودة فيها لا بد وأن تجد لها منفذا ، لأنها لا يمكن أن تبقى حبيسة.. لأنه هنا فقط نحس بقسوة الحياة وشدتها وقوتها...تلك المشاعر التي تحول الأحاسيس الى عاطفة جياشة ومودة صافية وتعاون مستمر لا مثيل له ، تلك القوة التي تدفع فينا الأمل لغد مشرق وضاء.

عند هذا كان الاعياء قد أحاط بالجد المعاق ، فطلب المساعدة للا نتقال الى فراشه ليستريح ، ومدت الأم يدها تساعده مع فراري ابن زوجته ، ذلك الرجل الشهم الوسيم الذي مضى على وفاة زوجته أكثر من عامين لم يفكر خلالهما في الزواج. ثم انحنت تلثم بشفتيها يده ثم رأسه الذي حول خريف حياتها الى ربيع امتلأ بالزهور والأمل والحياة حين قام بتزويجها الى فراري فحول حياتها الى ربيع وعمرها الى شباب دائم حينما وجدت من يشاركها حياتــــــــــها.

كنت تسللت الى المقبرة بعد العصر حتى لا أكون محل شك حارس المقبرة لأن زيارة القبور فى النهار ليست محل شك وكنت قد أخفيت فأسا فى ملابسي البدوية ، و دخلت المقبرة وبحثت عن القبر، حتى وجدته فجلست بقربه ، أنتظر انتشار الظلام .
طال انتظاري بين القبور . قبور بيضاء أوشبه رمادية واللحود المنغرسة فى جوف البعض منها ... لكنها جميعا لا تهمنى كما يبدو أنها لم تهم احدا منذ توقف الدفن فيها وربما قبل ذلك .فلقد انقطعت الصلة بين ساكنيها وذويهم وزالت صلات المحبة والقربى بزوال شعلة الحياة ، فكل مشغول بأموره الحياتيه . أما من وورى القبر فقد انتهى أمره و امحى ذكره ولم يعد منه نفعا أو ضررا . الا واحدا... يدعى مسود(مسعود) وكنت أناديه هكذا و لا أزال وذلك راجع لعدم استطاعتى نطق حرف العين . فكيف يمكن لايطالية مثلى أن تنطق هذا الحرف الذى لايوجد فيما تعودته من كلام . لكن اليوم أستطيع أن أنطق العين والغين والخاء وحتى الضاد . لقد علمني مسعود النطق الصحيح رغم أنه لم يكن يعترض البته على نطقي بل كان يستطرفه ويستلطــــــــــــــه ..
هو نفسه استبدل اسمى من ليزا الى يزة . وكم كان سرورى عظيما يوم نطق باسمى الجديد لأول مرة . فقد نظر لى يومها نظرة طويلة، فبدت عيناه شديدتي الحمرة والسواد من شدة الكحل الذى كان يحب أن يكتحل به ثم نطق بالاسم ((يزة))
كنت أظنه يتحدث عن امرأة أخرى مما دعاني الى السؤال عن صاحبة الاسم ، فاجابني مبتسما ، أنت يزة.. ألا تقبلينه ؟ فرددت عليه بكل سرور ، بلى أقبله وأريده . فاقترن بتلك النظرة الطويلة وذلك الكحل وتلك الابتسامة الجميلة . فتبرق بارقة ويصدر صوت رفيق ينادينى بأسمى ويدعونى الى الابحار فى دنيا السحر والأسرار. يزة .ثم يسكت مسعود ويـــديم النظر . فيتراءى لي حور عينيه ويبرز لى طول شاربه ويطفو على عينيه وأسارير وجهه مايكنه في نفسه من أحاسيس ، فتنتقل اليّ فأشعر بقشعريرة فأضطرب ولا أستطيع الكلام فما جدوى الكلام وقد قلنا كل شيء بالنظر..غابت الشمس وبدأ الظلام ينشر سدوله على الكون وآن الأوان لاخراج الفأس من الكيس والشروع في نبش قبر مسعود ، فيقينى أن المقبرة خالية الا مني والأموات . ان العمل شاق جدا لاخراج عظام من قبر خاصة بالنسبة لى كأمراة وحيدة ، لكنى بعثت في نفسي قدرة للتحمل حتى أفوز بعظام مسعود وأنقلها فى المكان الذى أريد حتى تكون دائما بقربي أناجيها متى شئت وتؤنس وحدتى ، فلم يبق لي فى هذه الدنيا حبيبا أو أنـــــــــــــا .
تسلل ضوء القمر الى قاع القبر بعد أن سقط أحد اللحود فى جوفه فظهر الهيكل العظمى . ولم يبق لى الا اخراجه ووضعه فى الكيس . تلمست باحدى يدى الهيكل العظمى هذه ســـــــــــاق.. وهذهساق أخرى..... لكن لم أستطع مسكهما بصورة تمكن من أخراج الهيكل من القبر فرأيت أنه من الأفضل أن أنبش فى الجانب المقابل حيثالرأس يمكن من جذب الهيكل بشكل أسهل وأسرع .... وفعلا أعدت النبش من الجانب الآخر فظهرتالجمجمة وجذبت الهيكل فخرج معى بكل يسر وكأنى به فى أحد أيام الصيف ونحن نخرج من بيتنا الى الجبل القريب فقد كان مسعود يحب الجبل كأكثر ما يحب من الطبيعة .
أمتلأ الكيس وحملته على ظهرى .... المكان خال والصمت رهيب وخارج المقبرة الناس نيام والمسالك خالية الا مني أنا والكيس الذى أحمله على ظهرى ....... وهو يثقل كاهلي وأنا أسارع الخطوات حتى أصل الى المحطة قبل دبيب حركة البشر . البشر الذين لم أعد أتحمل عشرتهم بعد رحيل مسعود . فلقد كرهتهم ولم أعد أطمئن اليهم رغم أن مسعود كان حلقة بيني وبينهم وعمل على تخفيف تشاؤمى من سلوكهم وكشف أركانهم النيرة واقناعي بطيبة قلوبهم . لكني كلما اقتربت من أحدهم بعد عنّى ..الا أن مسعود كان دائما يجد لي دوما مبررات لمثل ذلك السلوك ويراه طبيعا جدا ويدفعنى لقبوله دفعا . لكن اليوم من كان يربطنى بهم هاهو يمتطى ظهرى الآن مطمئنا مثلما كان يمتطيه أيام كانت تسرى منه الحياة ويناجيني بعباراته الحلوة الجميلة.. ويدغدغ أضلعى بحرارتها .
الرد مع إقتباس