عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 24-03-2006, 01:00 PM
قناص بغداد قناص بغداد غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2005
المشاركات: 740
إفتراضي توبــــــة " تكفيــــــــــــــري

حامد بن عبدالله العلـــي

لم يكن الشاب الممتلئ ثقة ووقارا ، ويتوقد من عينيه بريق ذكاء لا يخفى على من يلمح حدتهما التي تعلن أيضا عن إصرار لايلين ، لم يكن يحمل هــمّ الزنزانة البائسة التي ألقوه فيها ، ولا الأغلال التي غلّوه بها ، ولا مايتقيأ به ساجنوه من شتائم لا يتفوه بها حتى أدنى السوقة سفالة ، ولا التعذيب النفسي والجسدي الذي قد غدا صبوحه وغبوقه مـذ حل ضيفا على "جهاز الاستخبارات" ، "المباحث "، "الأمن الخاص " ، " مباحث أمن الدولة" ، سمّها ما شئت ، فكلها تعني عنده شيئا واحدا فحسب : إنها أحد دلائل النبوة ، في قوله صلى الله عليه وسلم ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مميلاتٌ مائلاتٌ ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) ، ولا يخفى ما في اقتران هاتين الظاهرتين ، الطغيان السياسي والفساد الأخلاقي والمجتمعي الذي يبدأ بإفساد المرأة ، من مغزى ...

نعم لم يكن ذلك كلّه يهمّه ، بل كان غمّه الذي أغمّه أنه يقبع هنا بعيدا عن ساحات الجهاد التي عشقها عشقا يستحيل أن يبلغه وصف البلغاء ، أو شعر الشعراء.

وبينما هو في هذا الحال ، إذ سمع قرقعة باب الزنزانة الحديدي ، فصوب نظره ثــمّ ، فإذا به يدخل عليه "المشلح المذهّب" ، فقد مُنح مكافأة إضافيــــــة على التفرغ لتتويب " التكفيريين " وله فوق ذلك على كل توبة "تكفيري" علاوة سخية من "ولي الأمر" ، ألقى "المشلح" بنظره إلى الشاب المسلسل المستند بظهره إلى حائط الزنزانة متقرفصا ، فرفع الشاب بصره فأبصرت عينه شيخا في عينيه حيرة وضياع .

وأحضر " ذنب البقرة " للـ"مشلح " ، كرسيا وفيرا ، فجلس عليه ، ثم تنحنح وترنح وتبحبح ، ثم قال بعدما جلجل جدران الزنزانة بخطبة ، لم يتلعثم فيها بحرف ، ولاجرم فقد أكثر من تكرارها حتى حفظتها جدران المعتقل ، وقد تكلم فيها عن حقوق ولي الأمر ، فلم يدع له أمــراً إلا وعظمّه ، ولاعذرا في تهوين جرائمه إلاّ ولملمه ، ثم عرج على بيان وجوب السمع والطاعة ، وحذر من التكفير ، وأنه أمر خطير ، ثم بين ما للمعاهدين من حقوق ، وما في مخالفة ولي الأمر من عقوق ومروق ، ثم قال : لعل عندك بعض الشبهات ، فهات ما عندك هات ، فقد أمر ولي الأمر أنه بعد السياط والأغلال ، نحاوركم لنخرجكم الضلال .

فأسرها الشاب في نفسه ولم يبدها له : قال " وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى" ، ثم رفع صوته : نعم عندي الشبهات ، أحرقت كبدي ، وأطالت في الحيرة أمدي ، فإن كشفتها لي وتبت على يدك ، هل إلى خروج من سبيل ؟ قال نعم : ولك أيضا من العطاء الجزيل ، فقل ولا تخش من التطويل ، وفصـّـل فيما شئت ، واذكر ما علمك من غرك من أهل التضليل.

قال : لقد علّمونا أن الولاء والبراء أصل الدين ، وهو والتوحيد في قرن متين ، وأن أمّة الإسلام أمّة واحدة ، تجمعها رابطة الإيمان ، وهي توجب على المسلمين نصر بعضهم بعضـا ، وأن يكونوا صفا واحدا في مواجهة أعداءهم ، ولا يحل لهم أن تفرقهم الحدود السياسية ، ولا الانتماءات القومية ، ولا التعصبات القبلية ، يسعى بذمته أدناهم ، وهم يد على من سواهم .

قال "المشلح" : هذا كل حق سديد ، فقل ما هو جديد .

قال الشاب : علّمونا أنه لا يطلق لقب " تكفيري " على وجه الذم إلاّ جاهل ، ذلك أن هذا اللفظ مجمل ، يحتمل الحق والباطل ، فالتكفير منه فرض لا يصح الإسلام إلا به ، فمن لم يكفـّر المشركين ، أو شكّ في كفرهم ، أو صحح دينهم فهو كافر ، ومن الحكم بالتكفير ، ما دل عليه ظاهر الدليل ، وفي بعض مسائله نزاع ، ومنه ما هو باطل ، فلا يستعمل الذمّ بالمجمل والحالة هذه إلا جاهل مضلّل .

قال " المشلح " : أرى أن هذا كله حق .

قال الشاب : وعلمونا أن القضية الجوهرية اليوم التي يجب أن تتجه إليها الجهود ، هي أن أعداء الأمة اليهود ، يغتصبون مقدساتنا ، ويحتلون أرضنا في فلسطين ، ويقتلون أهلنا فيها ، ويخططون لهدم المسجد الأقصى ، وأن الصليبيين المتصهينين حكام أمريكا ، ما هم إلا صهاينة ، جاءوا محتلين بلادنا ، احتلالا سياسيا وعسكريا أيضا ، وقد جاءوا أيضا يحمون اليهود ، ويمدونهم بكل ما يحتاجونه للعدوان على الإسلام والمسلمين ، ويسعون لإبقاء أمتنا ذليلة ، بارتهان سياسة دولنا لمصالحهم ، وثرواتنا لأطماعهــم ، ويحاربون ديننا ، ويحولون بين شعوبنا وتحكيم شريعة الله فيهم .

قال "المشلح" لكن قالها هذه المرة بصوت ضعيف : صدقت .

قال الشاب : وعلمونا أنهــم جاءوا محتلين العراق ، في حملة صليبية ، ليسرقوا ثرواته، ويعيثون فيه فسادا ، ولإزالة أي تهديد قد يخيف أولياءهم اليهود ، وليجعلوا سياسته الخارجية وفق مخططاتهم والصهاينة ، وليحوّلوه إلى مرتع لكل زنديق ، ومسرح لكل من له مع الشيطان عهد وثيق ، متسترين بشعار الحرية الكاذبة ، والديمقراطية الزائفة .
__________________




لله در الفضيل بن عياض حيث يقول : لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين . وأحسن منه قوله تعالى : ( ولقد صــدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً مـن المؤمنين)