عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 13-02-2004, 05:16 PM
الصمصام الصمصام غير متصل
ذهـَــبَ مـَــعَ الرِيحْ
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2001
المشاركات: 1,410
إفتراضي مقال يستحق القراءة

د. بشير موسي نافعہ

ليس ثمة من مؤسسة للسيطرة والتحكم ولدها الاجتماع الانساني كمؤسسة الدولة. وان كانت الدولة في اطارها الوطني قد اصبحت اداة هائلة للسيطرة والتحكم فان الدولة الامبريالية اكثر هولا وقدرة في سعيها للسيطرة والتحكم وذلك لان مجال عملها لا ينحصر فقط بالبلد المركز بل بالمحيط العالمي ككل. تحقق الدولة الامبريالية اهدافها من خلال نظام بالغ التعقيد توظف لخدمته ادوات المال والاقتصاد، والقانون الدولي، والوسائل الدبلوماسية وغير الدبلوماسية. اما الاداة الحاسمة في خدمة هذا النظام فهي بلا شك القوة المجردة، قوة الجيوش والاساطيل والطائرات القاذفة. وليس صحيحا ان الحرب هي الخيار الأخير للدولة الامبريالية، بل هي علي الاصح الخيار الدائم الذي يستدعي كلما تتطلب المصالح الكبري للنظام الامبريالي ذلك. ولكن الحرب ليست خيارا انسانيا سهلا، ولارتباطها العميق بصورة الموت والدمار فلا بد ان تقوم الدولة الامبريالية بتبريرها، تبريرها لشعبها وتبريرها للشعب المستهدف ولشعوب العالم الاخري. وهنا تستدعي أداة السيطرة الامبريالية الأهم علي الاطلاق: الخطاب الامبريالي، خطاب الدعاية والاعلام، خطاب التقارير السياسية والاستخباراتية، خطاب الزعماء والقادة اصحاب السلطة والموقع، وخطاب النصوص الاكاديمية وشبه الاكاديمية.
وفي حين تموج اوساط السياسة والاعلام علي جانبي الاطلسي بالجدل حول وجود اسلحة الدمار الشامل التي استندت اليها الولايات المتحدة وبريطانيا لتسويغ غزوها للعراق، فان جوانب اكثر اهمية حول مصداقية خطاب الغزو ما زالت تهيمن علي المسألة العراقية. كان مبرر اسلحة الدمار الشامل ضروريا بشكل من الاشكال، لاعطاء عملية الغزو اساسا قانونيا دوليا، وعندما عجزت الدول الغازية عن الحصول علي الشرعية الدولية ظل هذا المبرر مفيدا لتوفير التأييد البرلماني وتأييد قطاعات من الرأي العام علي جانبي الاطلسي. ولكن خطاب الغزو كان خطابا مركبا متعدد الاطياف والمقولات، وقد تجاوزت دائرته قضية اسلحة الدمار الشامل. استدعي خطاب الغزو مسائل التنمية والاسلام، دعاوي التسلط والظلم والاستبداد، كما انشأ تصنيفات متناقضة لفئات الشعب العراقي والدولة العراقية. لم يوظف هذا الخطاب فقط لاطلاق عملية الغزو، بل ما زال هو الخطاب السائد للمشروع الامبريالي لتأسيس العراق الجديد. المدهش في كل هذا ان الخطاب الامبريالي حول العراق في مطلع القرن الحادي والعشرين يكاد يكون صورة طبق الاصل عن الخطاب الامبريالي المؤسس لغزو العراق في الحرب العالمية الاولي وللمشروع البريطاني لاقامة الدولة العراقية الحديثة آنذاك.
كان الغزو البريطاني للعراق في الحرب العالمية الاولي، ومن ثم اعادة بنائه السياسي ضمن اطار الدولة الوطنية الحديثة بعد الحرب، الانموذج الابرز في النظام الامبريالي الجديد. لقد خاضت بريطانيا وحلفاؤها الحرب ضد الدولة العثمانية علي فرضية ان الانتصار سيؤدي الي مزيد من التوسع في البنية الامبراطورية البريطانية. ولكن عالم مطلع القرن العشرين كان مختلفا عن عالم الامبريالية التقليدية للقرن التاسع عشر. يعود الاختلاف، كما يشير توبي دودج في كتابه Inventing Iraq الي فكرة حق الشعوب في تقرير مصيرها، والتوكيد علي الدولة الوطنية ذات السيادة باعتبارها وحدة النظام الدولي. وقد انبرت الولايات المتحدة بقيادة ودرو ويلسون للدعوة الي هذا النظام الدولي. اما سبب الاختلاف الثاني فيعود الي بروز النزعة القومية الاستقلالية لدي شعوب المشرق العربي، النزعة التي ولدت قبل اندلاع الحرب الاولي وتجلت بعد الحرب في ثورة العشرين في العراق، الانتفاضة الفلسطينية، ثورة 1919 في مصر، والثورة السورية الكبري. كان الحل لهذا التعقيد الدولي والاقليمي ان ابتكرت دول مؤتمر الصلح في باريس نظام الانتداب، الذي اقتضي ان تعمل الدول المحتلة (بريطانيا وفرنسا) علي ايصال الشعوب الواقعة تحت سيطرتها الي مستوي يؤهلها للاستقلال والسيادة باشراف من عصبة الامم.
كان العراق قبل الحرب، كما سوريا الكبري والجزيرة العربية، جزءا من الدولة العثمانية. وبالرغم من ان الدولة العثمانية دخلت الحرب بعد شهرين علي اندلاعها وفي تحالف مع المانيا والنمسا، فان بريطانيا اتبعت تجاه السلطنة وبلادها سياسة هجومية هدفت تحطيم الكيان العثماني بالكامل. ولأن بريطانيا كانت تخوض حربا مريرة ضد الالمان في الجبهة الغربية فقد احتاج الهجوم البريطاني في الشرق الي تبرير ومسوغ. في خطاب التبرير ذاك، لعب الميراث الاستشراقي واستدعاءات الذاكرة الغربية الجمعية للصراع بين الاسلام واوروبا، كما اطروحة الاستبداد الشرقي، دورا بارزا في اسباغ الشرعية علي الغزو البريطاني للبلاد العثمانية. ولكن مشكلة بريطانيا ان حربها في الشرق كانت حربا ضد عنصرين شرقيين رئيسيين: العرب والاتراك، احدهما، وهو الطرف العربي، انشق علي نفسه لينحاز قطاع بارز منه الي جانب بريطانيا والحلفاء. وهذا ما ادي بالتالي الي انقسام خطاب الغزو البريطاني علي ذاته. فالشرق، في الخطاب البريطاني يعيش في ظل القهر والاستبداد، ساكنا، متخلفا، متحللا غير قابل لاحراز اي درجة من التقدم منذ قرون، وهو بالتالي بحاجة الي قوة خارجية تبث في عروقه شعلة الحضارة العالمية الجديدة وتخرجه من سباته الطويل. ولكن هذا الشرق هو في الحقيقة شرقان: شرق تركي مسيطر، يحكم في عزلة عن الشعوب التي يحكمها بينما يمارس ضد هذه الشعوب اعلي مستويات الاستبداد والاستغلال. هذا الشرق التركي مريض مزمن لا يرجي اصلاحه والعلاج الوحيد الممكن له هو الهزيمة والتدمير المنظم والشامل. اما الشرق الاخر، شرق القبائل والعشائر العربية، فبالرغم من تخلفه ووقوعه تحت النير التركي منذ قرون، فانه شرق نبيل ينتظر فرصته للتحرر والنهوض والعودة الي المسرح العالمي المتحضر. وهو فوق ذلك الشرق الحليف للغرب الاوروبي. مهمة بريطانيا في الشرق، اذن، هي مهمة تحررية، مهمة حمل مشعل الحضارة والتقدم، مهمة استئصال المرض المزمن الذي لا يرجي علاجه وفتح الباب امام اولئك الذين يستحقون اعطاءهم فرصة النهوض واعادة البناء. كان الاتراك والعرب في الخطاب البريطاني نسخة مبكرة عن سنة العراق وشيعته واكراده في خطاب الغزو الجديد.
اصبح العراق، كما لم تصبح اية منطقة اخري، الموضوع الرئيسي للخطاب البريطاني في مطلع القرن العشرين. فمنذ بدء الغزو البريطاني للعراق كانت الخسائر التي تكبدتها قوات الغزو، بشريا وماديا، خسائر فادحة، سواء خلال المواجهات التي خاضتها القوات البريطانية ضد الجيش العثماني وقوات العشائر بين البصرة والكوت، او في الاستسلام البريطاني الفادح في الكوت، أو بعد ذلك في معارك ثورة العشرين. وما ان بدأ العمل بنظام الانتداب حتي تحول الخطاب الامبريالي البريطاني الي كسب التعاطف العراقي مع نظام الانتداب والدولة العراقية الجديدة. المشكلة بالطبع ان الخطاب البريطاني حول العراق العثماني كان في جوهره خطابا انشائيا، تداخلت فيه بعض الحقائق بالكثير من التصورات والاساطير والاوهام البريطانية لتاريخ الشرق وتاريخه العثماني علي وجه الخصوص، بل بالكثير من دعاية الحرب الفجة. لقد شهد العراق، كما شهد معظم المشرق العربي، استقرارا امنيا ملموسا بعد الفتح العثماني في القرن السادس عشر. وبالرغم من ان النظام العثماني الامبراطوري نقل المركز الاسلامي للمرة الاولي خارج المنطقة العربية، فقد تعهد العثمانيون حركة بناء مدني واسعة النطاق في اغلب المدن العربية الرئيسية كبغداد والموصل وحلب ودمشق والقدس والقاهرة، شملت بناء مدارس ومساجد وتأسيس اوقاف. وقد ساعدت مشروعات الري العثمانية الجديدة ونظام ملكية الارض والضرائب في انتعاش اقتصادي وزراعي واسع. وما ان بدأت السلطنة العثمانية تعاني ثقل التحولات الاقتصادية العالمية في القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر، حتي استطاع العراق اعادة تأسيس كينونته السياسية والاقتصادية من خلال الحكم المملوكي المستقل ذاتيا الذي اعاد توحيد العراق ضمن حدوده المعروفة تاريخيا.
في القرن التاسع عشر، وبعد عودة الحكم المركزي العثماني، شهد العراق حركة تحديث واسعة النطاق، بدأت بطيئة الخطي في منتصف القرن ثم تسارعت منذ ولاية مدحت باشا في 1869. وقد طالت حركة التحديث العثماني مختلف جوانب الدولة والاجتماع، وقطعت خلال نصف قرن خطوات واسعة باتجاه اوربة الحياة العثمانية. ان اول دستور عثماني وضع في 1876، وهو ذات العام الذي شهد ولادة البرلمان العثماني، وذلك قبل عقود طويلة من اقامة الحياة الدستورية في أغلب الدول الاوروبية. وبين 1908، العام الذي اعيد فيه الدستور العثماني الي العمل، و1914، العام الذي اندلعت فيه نيران الحرب العالمية الاولي، شهد العراق (وباقي البلاد العثمانية) ثلاث حملات انتخابية برلمانية، استطاعت القوي العراقية المعارضة لحكم الاتحاد والترقي ان تفرض العديد من مرشحيها رغم انف رجال الادارة العثمانية.
لم يحاول البريطانيون في العراق رؤية حقيقة الميراث العثماني للبلاد، تعقيدات هذا الميراث، تنوعه، والمنطق الداخلي الذي قام عليه طوال عدة قرون. ما رأوه كان صورة مختزلة من الاستبداد والتحلل والاستغلال. وقد نزع البريطانيون من خلال الادانة الشمولية لهذا الميراث الي تجاوزه والي اقامة العراق الجديد علي اسس جديدة مختلفة، أسس تنبع من التصور البريطاني الفيكتوري للعالم. ولكن المفارقة كانت في ان عراق النسخة البريطانية كان اسوأ بكثير من العراق العثماني، وان السياسات البريطانية في العراق جاءت في اغلب الاحوال لتعكس تناقضا صارخا مع القيم التي دعا اليها خطاب الغزو. العشائر العربية العراقية، التي قدمت في خطاب الغزو باعتبارها نقيض التحلل التركي، قصفت بالمدفعية الثقيلة والطائرات، في مجزرة لم يشهد تاريخ العراق مثيلا لها منذ الغزو المغولي، وذلك خلال الحملة البريطانية لاخماد ثورة العشرين. الارض الزراعية التي صورها خطاب الغزو اداة للسيطرة والتحكم العثماني، اعطيت بسخاء لا مثيل له لحفنة قليلة من الملاك. الادارة العثمانية التي عاشت لقرون من خلال علاقات تفاوض معقدة مع المجتمع وقواه، استبدلت بدولة مركزية محكمة، سعت منذ البداية الي السيطرة علي مقدرات المجتمع. الشريعة الاسلامية التي وفرت جدار الحماية الصلب للجماعات والأفراد، استبدلت بقانون وضعي لا يعترف بالجماعات وتقاليدها وخصوصياتها. وكانت المفارقة الأكبر ما لاحظه ناجي السويدي، القانوني العراقي الكبير، عندما استدعي للالتحاق باللجنة المكلفة بمراجعة القانون الاساسي العراقي الجديد في 1922، ان الدستور العثماني كان اكثر ليبرالية واكثر ضمانا للحريات من القانون البريطاني المقترح للعراق الجديد.


يتبع
__________________
-----------------------------
الأصدقاء أوطانٌ صغيرة
-----------------------------
إن عـُـلـّب المـجـدُ في صفـراءَ قـد بليتْ
غــــداً ســـنلبسـهُ ثـوباً مـن الذهـــــــــبِ
إنّـي لأنـظـر للأيـّام أرقـــــــــــــــــــبـهــــا
فألمحُ اليســْــر يأتي من لظى الكــــــرَبِ


( الصـمــــــصـام )