عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 31-03-2001, 03:42 PM
الشاذلي الشاذلي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2001
المشاركات: 146
Post

عصره:
ولد الشافعي في العصر العباسي وعاش فيه، وكانت الفترة التي استغرقت حياة الشافعي من ذلك العصر هي فترة استقرار الأمر لهذه الدولة، وتمكين سلطانها، وازدهار الحياة الإسلامية فيها وقد امتاز ذلك العصر بميزات كان لها الأثر الأكبر في إحياء العلوم ونهضة الفكر الإسلامي، حتى أنه يعتبر من أزهى العصور الإسلامية فكراً وعلماً. ففيه التقت الحضارات القديمة كلها وامتزجت تحت ظل الدين الجديد، ونشطت حركة الترجمة، وتولاها الخلفاء العباسيون بالتنمية والتشجيع. وهو عصر الخصب العقلي المستقل المنتج، فهؤلاء المحدثون يشمرون عن ساعد الجد لتمييز الصحيح في المروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذه الفرق المختلفة، كل فرقة تجرد سيف الحجة لتشق الطريق لآرائها، والشافعي يخالطها جميعا، ويناقش أصحابها، ويقبس من علمائها ما يراه صالحا. وهؤلاء العلماء من فقهاء ومحدثين ينتقلون في البلاد طلبا للعمل، فيلتقي بهم الشافعي، وخصوصا في البيت الحرام كان مؤتمراً علمياً ثم ها هم أولاء فقهاء الرأي وفقهاء الحديث يلتقون في مكان واحد ويتناظرون طلبا للحقيقة، فيأخذ كل مما عند الآخر. ثم هذا الفقه يجمع في الكتب فيرى الفقيه آراء غيره
مدونة مبسوطة فيقرؤها ويدرساها وينقدها ويقبل ما يراه أقرب للكتاب والسنة.
وهكذا جاء الشافعي في وسط هذا اللجب العلمي القوي، وأخذ من تلك الثروة العلمية العظيمة، وبقوة مواهبه ودراساته وحسن اتجاهاته خرج على الناس بآرائه ومذهبه

لمحة عن عبادته وأخلاقه:
كان رضي اللّه عنه كثير العبادة، فكان يقسم الليل إلى ثلاثة أقسام: ثلث للعلم، وثلث للنوم، وثلث للعبادة. وكان يقف بين يدي ربه فيصلي ويقرأ، وعيناه تفيضان بدمع غزير خشية التقصير. وقد كان رضي اللّه عنه يرى نفسه - لشدة تواضعه - من أهل المعاصي، وفي ذلك يقول:
أحب الصالحين ولست منهم * لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من بضاعته المعاصي * وإن كنا جميعا في البضاعة
يقول هذا وهو الذي يصفونه بأنه " لم تعرف له صبوة"
وقد اختص اللّه تعالى عالمنا بالعناية، فكان له صوت عميق التأثير، يخرج من قلب منير زادته العبادة المتواصلة، والمحبة الشديدة نورا وتأثيراً وسحراً وكان مولعاً بالقرآن وصحبته، فكان يختم في كل نهار وليلة ختمة، وفي رمضان كان يختم كل نهار ختمة وكل ليلة ختمة. وكان إذا قرأ القرآن بكى وأبكى سامعيه، روى أحد معاصريه: "كنا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي نقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى تتساقط الناس بين يديه، ويكثر عجيجهم بالبكاء، فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة وكان رضي اللّه عنه مستقيما على الشرع إلى أقصى الحدود وكان كريما ذا مروءة وخلق رفيع، شأنه شأن آل البيت، سخياً يقبل على الفقراء ويعطي عطاء من لا يخاف عيلة، وفي هذا تروى الأعاجيب عنه. ومن أقواله: "للمروءة أربعة أركان: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك". ومما تميز به شدة حيائه وخجله، حتى نقل عنه أنه كان يحمر وجهه حياء إذا سئل ما ليس عنده


محنته:

اتهم الشافعي رضي اللّه عنه بالتشيع، وحيكت له المؤامرات في قصر الخليفة هارون الرشيد حتى بعث في طلبه، وسيق، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، في أقياده مع تسعة من العلويين إلى الرشيد، وهناك ضربت رقاب العلوية التسعة أمام الشافعي واحدا بعد آخر، حتى جاء دوره، وكان محمد بن الحسن القاضي عند هارون الرشيد حاضرا، واستطاع الشافعي بذكائه وسرعة خاطره أن يستميل إليه قلب الخليفة وعقله وأن يقنعه ببراءته، وأسلمه الخليفة للقاضي محمد ابن الحسن، وكان العلم رحما بين أهله، ودافع عنه القاضي وساهم في خلاصه، وقال فيه:
"وله من العلم محل كبير، وليس الذي رفع عليه من شأنه"
وبرئت ساحة المتهم، وأمر له الرشيد بعطاء قدره خمسون ألفا، أخذها الشافعي وانهالت كلها من بين يديه عطايا على باب الرشيد

مرضه ووفاته:
كان رضي اللّه عنه كثير الأوجاع والأسقام، وكان يشكو البواسير خاصة، ولقد بلغت منه في أواخر أيامه مبلغا عظيما، فكان ربما ركب فسال الدم من عقبيه، وكان لا يرح الطست تحته وفيه لبدة محشوة، يقطر فيه دمه. وما لقي أحد من السقم مثل ما لقي، ولكن هذا لم يكن ليصرفه عن الدروس والأبحاث والمطالعات وليس هذا غريبا على مثله، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قال عندما سئل عن أشد الناس بلاء: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) (الترمذي ج 4 / كتاب الزهد باب 56 م 2398) ولما كان في مرضه الأخير دخل عليه تلميذه المزني فقال له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلا وللإخوان مفارقا، ولكأس المنية شاربا، وعلى اللّه عز وجل وارداً، ولا واللّه ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي * جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل * تجود وتعفو منة وتكرما
وفي آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين للّهجرة انتقلت روحه الطاهرة إلى ربها، عن أربع وخمسين سنة.
وفي عصر اليوم التالي خرجت مئات الألوف تنقل الشافعي إلى مثواه الأخير في القرافة بمصر وذهل الناس بوفاة الشافعي، وخيمت الكآبة على وجوه العلماء، وهيضت أجنحة تلاميذه وطويت صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا الرائع، وغاب نجم من النجوم التي سطعت في سماء البشرية، فأضاءت المشرق والمغرب.
رحم اللّه الشافعي، ورضي عنه، وأكرم مثواه. فقد كان كما قال عنه أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه: كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض