عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 16-09-2006, 10:52 AM
السيد عبد الرازق السيد عبد الرازق غير متصل
مشرف
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 1,254
إفتراضي


واللقاء مهما كان ساذجا ، أو جنسياً فإنّه يحرك في أعماق مصطفى سعيد كوامن خاصة .. يذكره بالغزاة والطامعين .ويعود به إلى أيام عز الأمة وانتضارتها .. فمجرد ذكر اسبانيا يذكره بلقاء الجنود العرب في الأندلس . ورحلة مصطفى بالرغم من أنها رحلة معاصرة إلا أنّها غوص في أعماق التاريخ وتفسير لبعض غوامضه ثم العودة بالحل .
ومصطفى سعيد رغم تهالكه على الجنس إلا أنّه يرفض أن يتحول هذا اللقاء إلى حب .. الجنس وحده عملية ممقوتة .. أمّا في حالة الامتزاج فإنه يوظف وظيفة خطيرة تعني انهيار الشخصية العربية وتحطيمها .. (( وسمعتها تقول لي بصوت مستسلم متضرع (( أحبك )) فجاوب صوتها هتاف ضعيف في إعماق وعيي يدعوني أن أقف )) ولذلك قرر مصطفى سعيد أن يحقق مع الجنس بديلا آخر غير الحب وهو القتل .
إنّ النساء اللاتي إلتقى بهن مصطفى سعيد يمثلن الحضارة الأوربية التي هي نفسها الحضارة القديمة ، والتي ظهرت قبل ألف عام ، وحملت وما تزال جرثومة العداء والحقد والاستغلال والقتل .
إنّ آثار العنف بقيت ملاحقة لشخصية مصطفى سعيد ، ولم يقف تإثير جرثومته عند حدود الأوربيين ، بل استمخر في مجتمعه السوداني ولكنّه شرع ينفث آثاره ببطء وهدوء في مجتمع اعتاد الاستقرار . غير أنّ تفث جرثومة العنف الأوربي كانت عميقة الغور في المرأة التي عاشرت مصطفى سعيد في السودان فترة زمنية طويلة ، وهي زوجة حسنة بنت محمود . ولقاء مصطفى سعيد بزوجه كان من أجل التلاقح والاخصاب الجنسي والفكري معاً . وكانت حسنة (( رمزاً طيباً لتقبل عنصر التجديد والاسهام في رفع عجلة التطور إلى الأمام وذلك لقابليتها للتجديد واستعدادها الفطري له )) . وحسنة بنت محمود بما تحمله من صفات وخصائص ترمز إلى البيئة والأرض أو تعني السودان والشرق التي تسعى إلى تلاقح جنسي وفكري معاً ويدفعها إلى الأمام (( انها تريد أن تخطو إلى الأمام دوم أن تنتزع جذرها من الأرض )) .
وكانت حسنة بنت محمود رغم بسطتها ، تحس إحساساً فطرياً عميقاً بتفهم هذه الشخصية الوافدة التي لم تعرف عنها شيئاً .. واندفعت مع مصطفى تتزود منه بهدوء .ولكنه عداها بجرثومة مرضه ، العنف ... التمرد .. الرفض .. وسعت حسنة إلى الاقتران بالرواي الذي يمثل البديل (( الامتداد الحقيقي المقبول لمصطفى سعيد )) .. لأنّ مصطفى سعيد بداية مشوهة فيها شذوذ ، ولذلك أنهى الطيب صالح حياة مصطفى سعيد بالموت ..ويكون الراوي الامتداد الطبيعي لممارسة الحياة ... ولذلك وبعد أن رضيت حسنة بنت محمود بالبداية المشوهة .. رفضت أن تتزوج رجلاً كهلاً يمثل التهاوي والخمول ، ويحمل عقلية متخلفة ، لا تفرق بين شراء حماره أو الاقتران بإمرأة وانتهى زواجها بهذا النمط البالي المتخلف بالقتل ، قتلت ود الريس ، زوجها الجديد ، وقتلت نفسها . (( وبذلك تكون (( حسنة )) قد قتلت التقاليد القديمة التي تعودت أن تجعل من المرأة شيئاً من المتاع المادي ، وليست (( إنسانة )) ذات عاطفة مستقلة ، إنهّا قتلت رمزاً من رموز الماضي بتقاليده ونظرته الخاطئة إلى الحياة ، وأحدثت بهذه ( الجريمة ) صدمة مفجعة لمجتمع قريتها الأفريقي الهاديء البسيط )) هذه الصدمة العنيفة ولدت موقفاً معيناً . وأفاقت القرية السودانية على مولد جديد زرع بذوره مصطفى سعيد . ترى هل هذه الجريمة امتداد للجرثومة القديمة التي بدأت آثارها في أوربالأسباب معينة اشرنا إليها . فامتدت لتشمل السودان والشرق .. ? !! .. (( لقد كان مصطفى سعيد يحمل الجرثومة التي أصابت القرية وجعلتها تنظر إلى مستقبلها بقلق وخوف )) .
ومسألة أخرى ينبغي أن نلتفت إليها . تلك غرفة نوم مصطفى سعيد في أوربا التي كانت تدور فيها معاركه الضارية مع الحضارة الأوربية . وكان الروائي يصر على رائحة الصدل والند.. هذه الرائحة الخانقة القاتلة ..ما إن تستنشقها امرأة جاءت لتطأ فراشها حتى تكون نهايتها الموت .. (( غرفة نومي مقبرة .. تعبق من الغرفة رائحة الصندل المحروق والند .. غرفة نومي كانت مثل غرفة عمليات في مستشفى .. أقضي الليل ساهراً أخوض المعركة بالقوس والنبل والسيف والرمح والنشاب ..فأعلم أني خسرت الحرب مرة أخرى )) ... هذه الغرفة محاطة بسر غامض ورائحة الصندل والند ...تذكرنا بالمتصوفة . وغرفة أخرى مغلقة باسرار . برائحة الصندل والند .. غرفته هذه المرة في السودان ..في قرية وصدمت الراوي روائح الغرفة . وكاد يموت أو ينتحربعد خروجه منها لولا خلفية فكرية ضارية الجذر بالتراث والأرض . هاتان الغرفتان أو هذه الغرفة التي فتح الراوي النوافذ عليها فلم يدخل من الخارج سواى مزيد من الظلام .. ? ماذا تعني هل هي غرفة أودعها أسراره ، وما السر في كونها قاتله لمن دخلها .. ? !! ولماذا لم يسمح مصطفى سعيد لزوجه الدخول إليها منذ زواجه منها .. وحتى وفاته ? ! ولماذا كان الراوي يصر على أن تظل الرائحة حبيسة . فيها وحرق محتويتها . كي لا تتسرب روائحها القاتلة .
ويبدو لي انّ هاتين الغرفتين تمثلان اعماق مصطفى سعيد بما تحمله من غرفة داخلية وخارجية . والتي تصطرع فيها كل المواقف الغامضة وتدور فيها الحرب والصراع الحضاري ، وهي مغلقة بهذا الغموض والصوفية .
أما الجيل الثالث الذي يمثله الراوي ومحجوب .. فهو يمثل عنصر المصالحة مع الحضارة الأوربية ، والراوي يذهب إلى أوربا ولكنه لم يصطدم بها كما حدث لمصطفى سعيد لأسباب عديدة .. إنه من جيل آخر غير جيل مصطفى سعيد . جيل عاد إليه الهدوء نسبياً . وأصبح فيه الاستعمار تاريخياً . أو قل تأثيره . وإنّ الراوي يشعر أنّ هناك جذوراً كثيرة إلى بيئته وتجذبه إليها .. (( نظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في دارنا . فعلمت أنّ الحياة لا تزال بخير . انظر إلى جذرها القوي المعتدل وإلى جذورها الضارية في الأرض ، وإلى الجريد الأخضر المتهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة ، أحس أنني لست ريشة في مهب الريح ، مخلوق له أصل ، له جذور ، له هدف )) .إنّ الراوي يشعر أنّ هذه الجذور تشده بعنف وقوة إلى الأرض والبيئة ، والجد جزء آخر يشده إلى البيئة والأرض شداً عنيفاً (( وحين اعانقه ـ أي الجد ـ استنشق رائحته الفريدة التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة ورائحة الطفل الرضيع ))
وبموت مصطفى سعيد تتولد أشياء جديدة في القرية ، ويبدو أنّ جرثومة المرض انتشرت في المجتمع ، ويتحول الراوي إلى غريب وطالب ثأئر من مصطفى سعيد ، ويسعى بكل جهده لمواجهته ولكنه يشعر أنّه ابتدأ من حيث انتهى مصطفى سعيد ، والذي نراه ، أنّ الراوي يتصور أنه يرى صورة مصطفى في غرفته المعلقة في غرفته في السودان . ولكنه في الحقيقة كان يرى نفسه في المرآة ، وتداخل الشخصيتين بهذه الشكل يعني أنّ جرثومة المرض قد سرت إلى الراوي ، ولذلك فكر الراوي أن يرحل كرحلة مصطفى سعيد إلى الشاطيء الشمالي ، وفي هذه الرحلة الموت .. الغربة .. والألم .. ولكنه قرر الحياة فاتجه نحو الجنوب الذي يمثل الأرض .. ، وتحددت علاقة الراوي بالنهر وهو طاف فوقه وليس جزءاً منه .. النهر الذي يعني الحركة .. بل يعني الزمن .. (( إنّ حياة القرية رهن لعطاء النهر .. والنهر يرتبط بحياة أهل القرية منذ طفولتهم )) ... (( فكرت أنّني إذا من تلك اللحظة فإنني أكون قد متّ وكما ولدت دون ارادتي ، طول حياتي لم اختر ولم أقرر ، إنّني أقرر الآن ، انّني اختار الحياة )) .
أراد الراوي لمصطفى سعيد الذي يمثل جيل الحرب أن ينتهي وأنْ لا يسود . فأوصله إلى تلك النهاية المفجعة ، وإن بدا هذا الأمر في الظاهر اختياراً إرادياً لمصطفى سعيد .. والهلاك والموت لجيل الحرب مسألة محتمة تفرضها حركة التاريخ . غير أنّ اختيار الراوي عن وعي وادراك ، فاختار الحياة ، وقرر أن يحدد موقفه منها ، فرفض الرحلة إلى الشمال كي لا تتكرر المأساة في جيل جديد ، جيل الأكذوبة في حياة مصطفى سعيد .
إنّ الراوي يمثل جيل ما بعد الحرب ، جيل هاديء مستقر ، تؤثر فيه مظاهر العنف الأوربي ، والراوي ومحجوب يمثلان عنصر المصالحة والحل بين الحضارات ، وهو لقاء قائم على التفاهم والحل والوعي والتأمل (( واذا كان مصطفى امرءاً يستبد به الشوق إلى كل جديد وغريب ، فأنّ الراوي لا يستريح إلى الغريب حتى يرى تشابهاً من المألوف ، الناس عنده هم الناس في كل مكان )) . ولذلك فهو يقول (( إنّ الاوربيين مثلنا تماماً .. يولدون ويموتون )) والراوي (( وإنّ أشبه مصطفى سعيد في كونه مثقفاً سودانياً أقام في بلاد الانجليز سنين طويلة وتشرب ثقافاتهم فهو يختلف عنه اختلافاً أصيلاً من حيث الانتماء إلى الأرض )) .
أما محجوب فهو يمثل الشخصية الفلاحية الواعية المرتبطة بالأرض . والممثلة لمصالح هذه الفئة من الناس يوعي ونضج . ولا خلاف انّ محجوباً شخصية إيجابية تمثل الجمهور الواسع من المجتمع السوداني . غير أنّ محجوب والراوي إقتتلا في قضية تتصل بمصطفى سعيد (( الذي حدث بعد ذلك ليس واضحاً تماما في ذهني . ولكني أذكر .. يدي مصبقتين على حلق محجوب . وأذكر حجوظ عينيه وأذكر ضربة قوية في بطني ، وأذكر محجوب جاثماً على صدري ... )) .
الموت سر ملغز في الرواية . وهو إستجابة أو ردود فعل طبيعية لحدة العنف الأوربي الذي بذرته أوربا في نفس مصطفى طيلة الفترة ( ثلاثين عاماً ) التي قضاها هناك .. ورغم تشرب العنف في نفسه إلا أنّه وقف في وجه الحضارة الأوربية محارباً وغازياً لها بأساليب سلبية ، وإنْ كانت تحمل في اللاوعي بعداً عميقاً ضارب الجذر في الصراع بين الحضارات الانسانية .
إنّ الراوي في نهاية الرواية أوشك على الموت وصرخ .. (( النجدة .. النجدة )) . وهذا يعني أنّ الجيل المثقف الجديد ... جيلنا المعاصر به حاجة إلى نجدة وإنقاذ خشية الذوبان ..إنّ الراوي قد اختار ، ولكنه الاختيار وحده لا يضمن النجاح ، إذ لابدّ من وقاية لهذا الجيل .
أمّا أسلوب الطيب صالح ، فقد وصفه الغربيون بأنه (( فنان من الشرق ـ فيه طعم الشرق وسحره وجنونه وصوفيته ، ولكن بثياب أوربية )) .
__________________
السيد عبد الرازق
الرد مع إقتباس