الموضوع: رواية ...
عرض مشاركة مفردة
  #12  
قديم 10-12-2002, 08:39 AM
ساعدة ساعدة غير متصل
ابن الصحراء
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 250
إفتراضي

و ها هو ...



الفصل السابع

-1-‏

لا بد لمن يعاشر الدكتور، من أن يشعر بأنه أمام إنسان ذي أطوار غريبة.. فهو يراه - أحياناً- صامتاً لا يتكلم مع أحد، همّه أن يطرق رأسه ويمعن في التفكير، أو ينظر إلى بعيد نظرات شاردة لا معنى لها، أو يحملق إلى وجه محدثه ببرود يكاد يصل إلى حد البلاهة.. وأحياناً أخرى يراه مندمجاً في أحاديثه مع الآخرين، يدافع بقوة وصلابة عن رأيه، وينظر نظرات مركزة في وجه محدثه، ويصغي بانتباه إلى كل كلمة يتفوه بها!!‏

ولكنه سواء أكان في صمته أم في حديثه، في نفوره أم في إقباله.. فقد كنت أحس أن شيئاً ما في داخله يعذّبه، بل يكاد يقضي عليه.. فمعالم الحزن ما غابت يوما عن وجهه، والضحك كان شبه محرم على فيه، وهو إن ضحك فما كانت هذه (الضحكة) لتخرج من أعماق صدره أبداً!‏

مع الأيام.. ازدادت علاقتي بالدكتور فارس، وتوطدت صداقتي معه.. كثيراً ما كنت أزوره في العيادة الحكومية حين يخف عدد المراجعين، وكثيراً ما كان يزورنا في ورشة عملنا.. حتى أن زملائي العمال استغربوا ذلك التحول الذي طرأ على شخصيتي، إذ تغيرت بعض طبائعي، وأخذت أسامرهم وأحادثهم وأشاركهم في أعمال البيت!.. ولعل الصداقة الجديدة هي التي أحيت في نفسي شيئاً من الحماسة لهذه الحياة.. ولعل أصحابي أدركوا هذا السبب أيضاً، لذا فإنهم كانوا ينادونني بلهفة حين يدلف الدكتور من الباب:‏

-جاء صديقك يا تحسين!‏

وما كان الدكتور لينزعج من أن أُسَمَّى صديقا له، فالصداقة بين عامل وطبيب طبيعية جداً، وفق المبادئ المأخوذ بها إلى حدّ الهوس!‏

-2-‏

كان موعد زيارة الدكتور لنا قبيل التاسعة.. ولا يكاد يأخذ مكانه في المجلس حتى يمسك بالمذياع، ويدير إبرته ببطء حتى تقف عند محطة عالمية تبثّ أخبارها في ذلك الوقت.. ونضطر إلى السكوت طوال المدة التي تستمر فيها النشرة!.. كنت ألاحظ انفعاله مع كل خبر، كان يعيش مع الأخبار وكأنه في عالم آخر.. عالم لسنا نحن من سكانه! وعندما تنتهي الأخبار، يعود إلينا.. بصمته أو بحديثه.. حسب الطور الذي يعيش فيه!!‏

أحياناً.. كان الدكتور يحدثني بكلمات غير مفهومة! وكأنه يقصد من وراء كلماته هذه أن أشاركه مشكلته التي يعاني منها، من غير أن أعرف ما هي المشكلة بالتحديد!! مصيبة كبرى أن يحمل الإنسان في صدره هماً عظيماً ثم لا يقدر أن يبوح به أمام الآخرين! فهو حين يطرح أمامهم همومه وأحزانه يشعر براحة كبرى، فكيف إذا وجد بعد الطرح حلولاً ناجعة تشفيه!! أتمنى لو يبوح الدكتور لي بما يعتلج في صدره لعلي -وبإمكاناتي البسيطة- أتمكن من مساعدته في الوصول إلى درب الحلول وطريق الشفاء... ولكنه لم يفعل ذلك حتى الآن، ولا أعلم إن كان سيقدم على ذلك في المستقبل؟؟‏

-3-‏

قال لي يوماً:‏

- إنني أبحث عن توازن فكري ونفسي.. لقد اختل هذا التوازن منذ أن قررت الهجرة، وقدمت إلى هذا البلد.. ثم ازداد الاختلال معي حين ذقت الوحدة في أبشع معانيها، وعايشت العزلة في أشنع صورها.. لقد انقلبت بعض الأسس التي كنت أعتمد عليها في سلوكي وتفكيري، وبت أشك في معايير كانت ثابتة مؤكدة في مخيلتي!‏

إنني أشعر وكأنني ريشة في مهب الريح.. وأحس بأن أفكاري تسبح في محيط بلا شطآن، وتحوم في فضاء ليس له حدود!!‏

وسكت الدكتور فجأة!‏

وحين نظرت إلى وجهه، صدمني البريق الذي تشعه عيناه.. هاتان العينان المغرورقتان بالدموع!! هذه أول مرة أرى فيها الدكتور يبكي! كانت دموعه- التي حاول مسحها بسرعة- دليلاً على عمق المأساة التي يعاني منها، وضخامة المصيبة التي يعيش معها.. لقد بكى أمامي اليوم مضطراً! ترى ماذا يفعل عندما يكون وحيداً بين أربعة جدران؟ أي نشيج أو نحيب يمكن أن يسمع منه! مسكين يا دكتور فارس، لقد تزاملت لديك الغربة والكربة، وتصادقت عندك العزلة والهموم.. أي سر رهيب ذلك الذي تحمله في أعماقك؟! ليتك تفتح لي صدرك قليلاً، وتميط اللثام عن معالم هذا السر.. ولكنني لن أطلب، لا لن أطلب ذلك منك، لأن طلبي سيزيد آلامك، ولن تكون وراءه أية فائدة!!‏

-4-‏

في أحاديث السياسة، كان الدكتور يصول ويجول.. يبدو أن الحديث السياسي- على الرغم من مرارته- ينسيه شيئاً من همومه الذاتية.. لاحظت هذه النقطة الإيجابية أكثر من مرة، لذا حاولت الاستفادة منها قدر الإمكان.. فكثيراً ما كنت أثير أمام الدكتور موضوعاً سياسياً ما، أو أطرح أمامه خبراً جديداً نقلته الإذاعة.. وكنت أطلب منه التحليل وإبداء الرأي، وما كان عند هذا الطلب يخجلني قط!!‏

آراء الدكتور وطروحاته السياسية، تدل على سعة أفقه، وعمق تجربته، ودقة ملاحظته.. كان يقوّم الأمور بطريقة (بانورامية) شاملة، فلا يتوقف عند الحدث الجزئي، بل يحاول ربطه بما سبقه أو رافقه من أحداث أخرى أثّرت فيه وأثّر فيها.. وكان ينظر إلى المستقبل نظرة بعيدة وفريدة، ويسعى دائماً أن يصل بين أمجاد الماضي وهزائم الحاضر، بين دروس الأمس وأحداث اليوم.. كانت ثقافته الإنسانية عالية، وإطلاعاته السياسية غزيرة، وله ذاكرة عجيبة لا يعلوها الصدأ حافلة بأخبار وأحداث ومناسبات وتواريخ قلما يتذكرها الإنسان العادي!!‏

كان يردد دائماً: مشكلتنا الأساسية أننا ننسى، نعيش الحاضر فقط، ونبني أمورنا كلها على وقائع الحاضر، دون أن نتساءل كيف تسنى لهذه الوقائع أن تجري لولا استباقها بوقائع أخرى حدثت في الماضي.؟!!‏

****‏

أكثر الناس احتداداً في النقاش مع الدكتور فارس.. كان المهندس فؤاد!‏

كانت آراؤهما السياسية متباينة، ووجهات نظرهما متعاكسة.. وكانت جلسات حوارهما صاخبة حامية.. تعلو فيها الأصوات، ويحلو فيها التحدي، وتستفز خلالها الأعصاب!‏

وما أكثر المواضيع الفكرية والسياسية التي تطرح على بساط بحثهما، وما أكثر الخطوط الحمراء التي يتجاوزونها في معاركهما الكلامية! على كل حال، لم يكن من الضروري الوصول إلى هدنة، أو وقف لإطلاق نار الاتهام.. فهذا أمر بعيد المنال في جلساتهما حامية الوطيس، خاصة وأن تحليل القضايا المعاصرة بات مشكلة عويصة، والسعي إلى بقعة ضوء وسط هذا الظلام المخيم أمسى شاقاً منهكاً، والاتفاق على رأي واحد وفكرة مشتركة هو في غاية الصعوبة ومنتهى التعقيد.‏

***‏



أخوكم في الله ..
الرد مع إقتباس