الموضوع: رواية ...
عرض مشاركة مفردة
  #14  
قديم 10-12-2002, 09:41 PM
ساعدة ساعدة غير متصل
ابن الصحراء
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 250
إفتراضي

و هذا هو ..



الفصل الثامن

ـ 1 ـ‏

جاء شهر حزيران، وجاء معه الحر الشديد الذي لا يُحتمل! ومما زاد الطين بلّة أننا لم نكن نملك وسائل رادعة تقينا شر هذا الحر، فنحن محرومون من الكهرباء، بمعنى آخر نحن محرومون من المكيفات والمراوح والثلاجات... ولم يكن الماء العادي ليطفئ حرارة الجوف، ولم تكن المراوح اليدوية ـ التي صنعناها من الورق المقوى ـ لتمنع عنا اللفحات الساخنة!... وكنا ـ حين ينتصف النهار ـ نسبح في نهر من العرق، العرق الذي يتدفق بغزارة من جميع مسام جلودنا!! كنا نتوقف عن العمل تماماً عندما يحين وقت الظهيرة، ونبحث عن مكان ظليل نتفيأ فيه ليخفف ولو قليلاً من لسعات الحر، وكانت تمر بنا الساعات الطويلة قبل أن تكسر حدة الشمس، ويميل قرصها نحو الأفق الغربي!..‏

في الليل، كنا نتعرض إلى هجوم عنيف من أسراب الهوام والناموس، الذي كان يلسعنا بلا هوادة، ومن غير شفقة أو رحمة، ويغطي وجوهنا وأجسامنا بنقاط حمراء تستدعي الحك الدائم... كنا نحاول تغطية أجسادنا بالملاءة فنكاد نختنق، فنسعى إلى ترك جزء يسير قرب الأنف من غير غطاء كي نتنفس، ولكن حتى هذا الجزء الظاهر الصغير لم يكن لينجو من اللسعات! نصحونا بـ(الكلّة)، ولكن هي الأخرى لم تأت بفائدة تذكر، لأن الحشرات الدقيقة كانت تدخل بسهولة عبر عيونها مهما تكن صغيرة!!‏

ولا نكاد ننتهي ـ مع انتهاء الليل ـ من الصراع مع الهوام والناموس، حتى يبدأ الذباب بأرتاله الكثيفة هجوماً منظماً آخر.. والذباب هنا (ثقيل الدم) بطريقة لا يتصورها عقل... ومهما تحاول (نشّه) وإبعاده، فهو لا محالة عائد إلى المكان الذي أبعدته عنه! فنضطر إلى ترك أسرّتنا مكرهين، وعيوننا نصف مغمضة، ورؤوسنا (مفتولة) ما تزال بحاجة إلى مزيد من النوم!...‏

وكأنَّ الحرَّ الشديد... قد دفع بعض الحشرات الكبيرة السامة إلى الهجرة من أوكارها الصخرية والترابية، واللجوء إلى البيوت لتتقاسم الحياة مع أهلها! فلأول مرة أرى العقارب الضخمة تمشي بخيلاء بيننا، فلا نكاد نقتل واحداً حتى يظهر آخر، وكنا نخاف حين جلوسنا أو عند نومنا أن نغدر بلسعة، لذا كنا حريصين على ملاحظة أسرّتنا والانتباه إلى أماكن جلوسنا، وكنا ننفض أمتعتنا وثيابنا نفضاً دائماً خشية أن يكون هناك عقرب لعين يتربص بنا!..‏

الحقيقة.. حياتنا باتت لا تطاق وسط هذه المنغصات.‏

وكنت ألوم نفسي دائماً على استمراري في البقاء، وتقاعسي عن العودة الفورية بمجرد معرفتي ظروف الحياة هنا... ولكن، لات ساعة مندم، فلا فائدة.. لقد بدأت، وعلي المتابعة حتى النهاية، وخليق بي أن لا أقع في مثل هذا المأزق ثانية!..‏

ـ 2 ـ‏

وازدادت زيارات الدكتور لنا، كان ـ أيضاً ـ يهرب من منزله الذي لم يعد يطاق! كان يقول لي: لم يعد هناك نوم لا في الليل ولا في النهار!... أغمض عيني فلا أستطيع النوم، ولا أجني من هذه الإغماضة إلا مزيداً من الوساوس والهواجس، التي أهرب منها إليكم!..‏

وجاءني يوماً.. وطلب مني أن ألحق به إلى مكان سيارته، حيث فتحها وأخرج منها فراشاً ووسادة ودثاراً.. قال لي: ساعدني..‏

ثم ركض أمامي إلى المسكن، وأخذ مكاناً في أحد أركانه قائلاً:‏

ـ سأبقى معكم هذه الفترة... أكاد أموت من الوحدة!..‏

قلت: ولكن...‏

قاطعني:‏

ـ لا تقلق.. سأعيش معكم كما تعيشون.. آنس بوجودكم قربي، وأجد أيضاً لقمة طيبة أتناولها حين أجوع.‏

في الواقع.. كنت متحرجاً من أن يلازمنا الدكتور ملازمة دائمة، فنحن العمال لنا طريقة خشنة خاصة في العيش، ربما لا توافق الدكتور الذي يبدو معتاداً النعومة والرخاء والبحبوحة.. كما أنني لا أعرف رأي الزملاء الذين يعيشون معي، كيف سيستقبلون وجود الدكتور معنا؟!..‏

المشكلة الأولى مرت بسلام.. فالدكتور فارس مستعدّ تماماً لتحمل أي شيء مقابل العيش مع الآخرين، والابتعاد عن الوحدة والعزلة! والمشكلة الثانية لم تكن في الحقيقة مشكلة، لأن أصدقائي سبقوني إلى الترحيب بالدكتور!...‏

وقد لاحظت بعض التغيير على الدكتور خلال وجوده معنا.. صار يمزج بين حين وحين، وخفّ صمته عن ذي قبل.. وكنا نحاول أن لا نكلّفه أي عمل منزلي، فكان أن تطوع بإحضار مشترياتنا من السوق بسيارته، وكنا نحتاج فعلاً إلى من يساعدنا في ذلك، لأن السوق بعيدة جداً، طريقها وعرة صعبة.‏

مع مرور الزمن، أصبح الدكتور وجهاً مألوفاً في الورشة. وأزيلت (الكلفة) بيننا وبينه، وتخلينا عن كثير من الرسميات في معاملتنا له، كما خفف هو الكثير من خجله خلال تعامله معنا!.‏

-3-‏

ارتفع بناء المدرسة، وأخذ شكله يتميز ويأخذ أبعاده وتطاول على البيوت المتناثرة حوله، وبدا وكأنه ينظر إليها بشموخ وكبرياء!. وقد كنا نستقبل كل يوم عشرات المواطنين الذين كانوا يتجمعون قرب المدرسة، يتفرجون ويحملقون بدهشة وإعجاب على ذلك المبنى الجديد، الكبير في حجمه، الجميل في منظره، وزخارفه، القوي في بنيانه وأركانه... وكثيراً ما كانوا يسألون:‏

-متى سينتهي البناء؟ متى سيتم دوام طلابنا فيه؟.‏

كنا نطمئنهم قائلين:‏

-قريباً.. قريباً إن شاء الله.‏

وكان جوابنا هذا، يطلق ألسنتهم بالشكر والثناء.‏

فعلاً، كنا قد أنجزنا القسم الأعظم من أعمالنا في هذا البناء، وكان الجميع يعملون بجدّ ونشاط..‏

كلٌ في مهنته... كنت قد أنهيت تقريباً من جميع التمديدات الكهربائية الداخلية والخارجية، وبدأت بتركيب الأجهزة الخاصة بالتدفئة والتبريد والإضاءة.. وقد ضاعف لي أبو عدنان عدد العمال الذين يعملون معي، مما ساعد في أن يكون عملي سائراً سيراً مرضياً... ويبدو أن التآلف مع الجو قد ساعد أيضاً في رفع الهمة وشحذ العزيمة.. فالغريب لا يبقى غريباً، والوضع الشاذ يصبح مع الأيام وضعاً طبيعياً ومقبولاً.. وأهم شيء في العمل أن يقبل الإنسان عليه بنفس راضية.. فإذا لم تتوفر مثل هذه النفسية فإن عقبات عديدة سيصطدم بها، ولن يكون قادراً على إزاحتها بسهولة.‏

ولا أخفي عنكم.. أن النموذج الذي وضع لهذه المدرسة نموذج جميل، بل جميل للغاية, وقد يستغرب الإنسان العادي أن يجد مثل هذا النموذج في مثل هذه المنطقة!... ولعله يحدث نفسه: ليتهم قدّموا لهذه المنطقة الخدمات الضرورية قبل أن يبنوا مثل هذا البناء، ليتهم أمّنوا لها الكهرباء، والماء، والهاتف، والمواصلات، والطرق المعبدة، والخضراوات.. قبل أن يدفعوا الملايين لإنجاز مثل هذه المدرسة!! ولكن هذا التساؤل لن يفيد شيئاً، فالعقلية التي يفكر بها القائمون على الأعمال لها طبيعة خاصة هنا.. وما دام المشروع قد تمت الموافقة عليه، فلا بد من ترجمته عملياً... وإن كانت هناك مشاريع أخرى ينبغي أن تحوز الأولوية.‏

الحوادث الفردية التي طرأت في أثناء العمل كانت بسيطة وقليلة.. ولعل مردّ ذلك إلى التحذير المستمر من وقوع أي حادث لنا، لأن إمكانات المعالجة في المنطقة بسيطة للغاية، وهذا يعني أن المصاب (تروح من كيسه)... وهذا ما دفعنا بالطبع إلى الحرص الشديد والحذر الدائم.‏

ولكن لا ينجي حذر من قدر.. فقد وقعت بعض الحوادث القليلة كما ذكرت، وكان الدكتور فارس لا يتوانى عن الإسراع في معالجة أي جرح أو كدمة مهما تكن بسيطة.. وكثيراً ما كان يدور علينا في الورشة، يتفقد أحوالنا الصحية، ويتابع بلهفة العمل الذي نقوم به، ويهز رأسه إعجاباً كلما شاهد إنجازاً يستحق التقدير.


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


إخواني ..

أصبحت أحب د.فارس كثيرا
من وجهة نظريهو بطل القصة ..

ما رأيكم أنتم ؟

أخوكم في الله ...
الرد مع إقتباس