الموضوع: رواية ...
عرض مشاركة مفردة
  #16  
قديم 18-12-2002, 11:51 AM
ساعدة ساعدة غير متصل
ابن الصحراء
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 250
إفتراضي

الفصل العاشر

-1-‏

أكاد اقول: إن مشروع المدرسة قد انتهى، إذ لم تبق هناك غير لمسات أخيرة، ومن ثم يُسَلَّم البناء إلى الجهة المسؤولة.. كنت أتساءل بيني وبين نفسي: لماذا نبني؟. الهدم سهل جداً في وطننا الكبير الغالي؟. يحتاج تشييد البناء فيه إلى شهور وأعوام، وفي لحظات يحصد صاروخ حاقد كل ما بذلته السواعد المفتولة والعقول المفكرة!. أنبني كي يهدم الآخرون!!. أما علينا أن نهيئ في البداية الحماية والحصانة، قبل أن نوجّه جهودنا إلى البناء؟!.‏

في الحياة المتناقضة، تكثر التساؤلات.. وربما لا يجد المرء لها جواباً! لأنه يعيش في وضع يعاكس الوضع الطبيعي، وضع شاذ يسرق منه أي توازن نفسي أو فكري، وضع يحرمه من الثبات على الرأي والاعتماد الحقيقي على النفس!.‏

بات الحزن لغة رسمية في ورشتنا، نسينا لغات الفرح والدعابة والمزاح! فالأخبار المأساوية القادمة.. سرقت كل شيء جميل في حياتنا...‏

تمر بالمرء مناسبات يحتاج فيها إلى ابتسامة.. قد يتخلص من ورطة، أو يصل إلى هدف يسعى إليه منذ زمن.. ولكن، حتى هذه الابتسامة بات رسمها صَعْباً على الشفاه!!. لم أبتسم إطلاقاً حين جاء أبو عدنان يحمل إلي الخبر الذي تصور أنه سيدفعني إلى القفز من فرط السعادة.. قال لي:‏

-أبشر يا تحسين.. لقد تم العثور على جواز سفرك في السفارة، وليس هناك أي (إشكال) بالنسبة له.. أنت الآن حر كعصفور طليق، تستطيع السفر، وتستطيع البقاء، وتستطيع التنقل.. ولن يضايقك أحد بسؤاله بعد اليوم!..‏

لم أبتسم...‏

تلقيت النبأ ببرود قاتل، ظن أبو عدنان أنني لم أفهم مقالته، كرر كلماته مرة أخرى، فاضطررت أن أسحب من فمي عدة كلمات:‏

-شكراً يا أبا عدنان.. بشارتك هذه تستدعي سروري حقاً!.‏

وتركت أبا عدنان وهو يرمقني بدهشة، تخيل أنني قد أصبت بمسّ.. ولكن أين أنا وأين أنت يا أبا عدنان، كلٌ منا في واد بعيد عن الوادي الآخر!. عقلي ليس هنا أيها الصديق، عقلي هناك مع الأحباب المحاصرين، الذين يتلقون السهام الغادرة بصدور مفتوحة وقلوب شجاعة!.‏

-2-‏

أيكتفي الإنسان بالتفرج من بعيد؟.‏

أيكتفي بالحسرات والآهات؟.‏

أيكتفي بذرف الدموع وتوزيع التهم وكيل الشتائم؟.‏

في رأسي أفكار متضاربة، آراء متشعبة.. أي صراع عنيف ذلك الذي يجري فيه، أحسّ به وكأنه يوشك على الانفجار...‏

أتابع أنباء القتلى والجرحى، تبثها محطات عالمية مختلفة، في الوقت الذي تبث فيه بعض المحطات العربية: برامج فنية، وفقرات ترفيهية، ومباريات رياضية، وحفلات انتخاب ملكات جمال!!.‏

وما من داع للاستغراب.. والواحد منا، يدفع منذ زمن طويل، بعيداً عن قضاياه المصيرية، ويحيّد في المسائل التي لا تمسّه مباشرة، ويُملى عليه بطريقة أو بأخرى.. بأن ما يجري في قطر عربي آخر يمسّ أهله فقط، ولا علاقة له به لا من قريب ولا من بعيد!.‏

ما من داع لاستغراب الصمت العربي، أو التصريحات الرسمية التي تأتي من باب إسقاط العتب.. فما عاد هناك شيء يهزنا من الأعماق، وما عادت هناك قيم وتصورات تدفعنا إلى التفاعل الحقيقي مع الحدث، وتحثنا على التواصل معه قلباً وقالباً!!.‏

* * * *‏

جاءني الدكتور فارس، وقد غمره هدوء غريب.. قال لي:‏

-هيّئ نفسك لوداعي.. فأنا راحل غداً..‏

قلت: إلى أين؟.‏

قال: إلى أرض البطولات.. إلى الوطن الغالي.. فقد بلغ السيل الزبى!.‏

قلت: وعملك.. هدفك.. وجودك هنا؟!؟.‏

قال: لقد انتهى كل شيء.. قدّمت استقالتي.. وأنا مسافر غداً..‏

قلت: بهذه السهولة.!!‏

قال: نعم...‏

قلت: يا صاحبي. هل فكرت ملياً بالأمر؟.‏

قال: لقد فكرت بما فيه الكفاية.. وأنا مرتاح جداً لهذا القرار.‏

سكت قليلاً.. ثم تابع حديثه:‏

-لقد غادرتُ الوطن الأول.. وأنا أتصور أن الحياة فيه باتت لا تطاق، إذ لم أكن أميناً على شيء يخصّني هناك!. معارك دائمة، انفجارات متكررة، مداهمات يومية، ذبح، قتل، خطف.. تصورت صعوبة التغيير، واستحالة تبديل الأمور، وتصورت بأن السفر بعيداً سينقذني مما أخاف منه، ويمنحني الطمأنينة والراحة.. ولكن ما حدث هو العكس، العكس تماماً!!. لاحقني الوطن على الرغم من آلاف الكيلومترات، حاصرني هنا في وحدتي ووحشتي، اقتحم علي كلّ منافذ تفكيري، وهاجم كل محاولة للسلوى والنسيان!.. كانت ذكراه تضخم وتضخم كل يوم، كانت صوره وذكراه تتركني نصف مجنون.. أكثر من مرة دفعت إلى حافة الانهيار، أكثر من مرة فُتِحت أمامي أبواب الضياع.. لم أكن طبيعياً، ولعلك أنت بالذات لاحظت ذلك، وحاولت أن تكشف السر!.‏

اليوم يا صديقي.. سيطر الوطن علي، نداؤه سحرني، أسكرني.. أنا عائد إليك أيها الحبيب لأقوم بواجبي هناك، لأعيش مع الأحباب والأصحاب، لأقف معهم في وجه الغزاة الطامعين، أساعد الجريح، وأشجع الصحيح المعافى.. أنا عائد إليك أيها العزيز، فقد طال البعد، واشتد الشوق، وتعاظم الحنين.. فافتح لي أحضانك، وضمني إليك.. أنا عائد إليك أيها الغالي كي أنال شرف الدفاع عنك..‏

-3-‏

بعضهم يسبق الآخرين في اتخاذ القرار، وبعضهم يقرر بعد أن يشجعه قرار الآخرين.. الناس درجات!.‏

قلت لصديقي الدكتور فارس، قاطعاً عليه حماسته:‏

-انتظر.. ألا تريد رفيقاً في السفر؟.‏

قال مستغرباً:‏

-من؟‏

قلت، وكأنني ألقي قنبلة جاهزة للانفجار:‏

-أنا..‏

قال:‏

-أنت!!.‏

قلت، وشفتاي تختلجان من التأثر والانفعال:‏

-أجل أنا.. ألا يعجبك هذا الصاحب؟.‏

قال، وكأنه يكرر أسئلتي السابقة نفسها:‏

-وهذا البناء.. وعقد عملك.. و....؟!.‏

قاطعته قائلاً:‏

-أعمالي انتهت تقريباً.. ولن يمانع المقاول من أن يتمم معلم آخر ما تبقى منها.. على كل حال، أنا مستعد لكل الاحتمالات.. انتظرني هنا، ريثما أقابل أبا عدنان..‏

وتركت الدكتور قبل أن يفتح فمه بكلمة..‏

وإلى غرفة المقاول أبي عدنان حملتني خطواتي الواثقة ......................













































































































































~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ النهايـــــــــــــــــــــــــــــة ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~

أتمنى أن الرواية أعجبتكم

أخوكم في الله
الرد مع إقتباس